أستاذ كامل

أستاذ كامل يعتز بمهنته كثيرًا، يفخر بها منذ أن تم تعيينه في أوائل التسعينات، وكان يتقاضى الفتات منها وما زال، كان يحب مدرسته وتلاميذه والقرية النائية التى ظل سنوات يسافر إليها يوميًا حتى استقر بها، وتزوج منها، وأصبح من أهلها.

 

أستاذ كامل عشق رائحة الريف والحقول، ألف رائحة الروث، واستساغها وأصبحت جزءًا من حياته، لم ينجب واعتبر تلاميذه هم البديل، أطفال لم ينجبهم، ولكنه تولى مسئولية التربية سواء فى المدرسة أو خارجها.

يستيقظ يوميًا قبل صلاة الفجر لقراءة القرآن، ثم يصلي، ويرتدى ملابسه، ويسير لمدرسته، وهو على يقين في قرارة نفسه أنه يقدم رسالة سامية ومقدسة، يشرف على الطابور اليومي، والإذاعة المدرسية، ويبدأ الحصة بابتسامة محببة.

 

أحب التلاميذ حروف اللغة العربية، وأصبحت كأصدقاء لهم، كان يدرك فقر بيئة القرية، ويستخدم أساليب بسيطة تناسب عمرهم وظروفهم وبيئتهم..

 

وأثناء انهماكه في الشرح رأى الباب يفتح فجأة، وفتاة شابة تقتحم الفصل بخطوات واثقة وثابتة، تنظر له فى تعال واضح، وتقول فى خفوت:

_ مع حضرتك مدام فاتن من متابعة الوزارة.

 

ابتسم لها فى ترحاب:

_ أهلا بحضرتك اتفضلي..

نظرت له تتفحصه، وهى تتمتم:

_ ممكن حضرتك تجلس على المقعد، أنا عاوزة الأطفال دول شوية.

امتثل الأستاذ كامل للكلام، وهو يرى غرابة الأمر، فمنذ أن كلف بالوظيفة لم يهتم أحد بتلك القرية أو تلك المدرسة، ولم يأت له إلا موجه المادة المكلف من الإدارة التعليمية.

صمتت مدام فاتن قليلًا تتفحص الوجوه الخائفة، ثم قالت فى صرامة:

_ مين يعرف استراتيجية الإشارة بالرقم؟

عم الصمت المكان، والتلاميذ ينظرون للأستاذ كامل؛ حتى ينقذهم من الضيف المخيف..

هزت رأسها، ثم قالت مرة أخرى:

_طب مين عارف استراتيجية لعب الأدوار، أو …أو…؟

قاطعها أستاذ كامل فى خفوت:

_ أستاذة فاتن ..الاستراتيجيات دي أنا نفسي أول مرة أسمع عنها، القرية هنا نائية جدا، ومفيش تدريبات بتوصل عندنا، حضرتك ممكن تسأليهم في العربي والقراءة وشوفي مستواهم.

 

هزت رأسها، وقالت:

_ مش شغلي ولا مشكلتي.. ممكن حضرتك تتعلم من النت

غمغم فى دهشة:

_ نت!!!!!!

نظرت له، وهى تقول في صرامة:

_ أنت لا تليق بكلمة معلم، ولا تصلح للمهنة للأسف!

صمت، هوت الجملة كصاعقة زلزلت كيانه..

كل هذا العمر الذى أفناه، وكل تلك الأجيال التي علمها، وتفوقت بسببه، وفى النهاية لا يصلح وغير مؤهل!

صمت ..

رآها تغادر الفصل في هدوء كقاتل ارتكب جريمته، وأزال آثار الدماء من يديه، ولم ينظر حتى للضحية التي ما زالت ترتجف من أثر انسياب الروح ببطء..

لمح نظرات تلاميذه المتباينة ما بين حزن طفل يلمح ألم معلمه، وخبث آخر يحب أن يرى معلمه في لحظة ضعف وانكسار.

انتهى اليوم الدراسي وهو صامت.

سار فى الحقول بصمت.

جلس طوال اليوم فى ركن من أركان منزله متقوقعًا لا يتحرك، لا يبالي بتوسلات زوجته ليتكلم، في اليوم التالى، لم يكن هناك أستاذ كامل، لم يستيقظ..

حضرت القرية جنازته المهيبة، ثم اتجه مدير المدرسة ليرسل إشارة سريعة إلى الإدارة حتى ترسل البديل..

 

تمت

الكاتب

شارك هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *