إنها حية

مرام
جلست مرام على أريكتها الوثيرة المفضلة القابعة أسفل نافذة زجاجية كبيرة بعرض الحائط بغرفة نومها. أخذت تطالع النجوم عبرها حيث تقع شقتها بالدور الثالث و العشرين بذلك البرج المميز بمنطقة كورنيش المعادي بالقاهرة. في ليلة كاحلة السواد ظلت تراقب النجوم بشرود تام، و إحباط ممتزج بالخوف و شعور عارم بالخطر. نظرت لشاشة جهاز الحاسوب المحمول أمامها و التي ظهر بها تشويش إلكتروني و كأن هناك خلل ما في برنامج الword المفتوح عليه ملف يحوي النسخة النهائية لروايتها الرابعة.
قبل يومين:
لمدة ست ساعات تحاول الكاتبة الموهوبة و الصاعدة مرام الحسيني جاهدة وضع التعديلات النهائية لروايتها الرابعة على جهاز الحاسوب النقال لكن يبدو أنها على وشك الإصابة بانهيار عصبي كامل. تأبى أزرار الجهاز أن تطيع أناملها ؛ فكلما همَّت بكتابة جملٍ بعينها يحدث أمر مخيف. عطل إلكتروني يصيب البرنامج و صوت همهمة مريع يهمس خلف أذنيها بكلام غير مفهوم ثم يحدث ما هو أكثر رعباً. جملٌ و مقاطع كاملة تُمحى و تُستبدل بغيرها و كأن هناك يداً خفية تقوم بذلك. مهما حاولت إعادة ما تم تغييره لكن الأمر ذاته ظل يُعاد مراراً و تكراراً.
التوتر المختلط بالرعب تصاعد سريعاً محتلاً كيانها و دواخلها. شعرت بتنميل خفيف بأطراف أناملها و ارتفاع مألوف لضغط الدم يصاحبه اضطراب قوي بضربات القلب مما أيقظ بذاكرتها أحداثاً مؤلمة عانت منها منذ عدة سنوات حين كاد اكتئاب حاد كاد أن يودي بحياتها.أغلقت الجهاز بعصبية مفرطة كادت أن تكسره. تراجعت للخلف تستند على ظهر كرسي مكتبها بقوة ثم زفرت زفرة حارة، و شعرت و كأن الدنيا تكالبت عليها بعد أن بدأت تبتسم لها. تملك منها اليأس، و الرعب كان سيد الموقف، لكن في النهاية غلبها النعاس و غطت في النوم.
قبل عدة أشهر:
منشور على صفحة الفيسبوك لدار نشر شهيرة:
بعد النجاح الساحق للروايات الثلاثة للكاتبة الموهوبة الفذة مرام الحسيني ، فقد أعلنت أنها انتهت من كتابة المسودة الأولى لروايتها القادمة بإذن الله. أعلنت أيضاً أنها كما عودت قراءها أنها ستكون مقتبسة عن أحداث أو أشخاص حقيقين، و لكن تلك المرة أشارت أنها من أشق ما كتبت و أكثر صعوبةً و تحدياً من كل ماسبق، خاصةً بعد وفاة والدتها منذ عام تقريباً. أضافت أيضاً أن سر كتابتها لذلك النوع من القصص و الروايات هو أن الحياة الواقعية هي أكثر رعباً من الأعمال الدرامية، و أن الشر المهيمن على قلوب البشر أكثر سواداً و قسوة من سطوة الجن الشياطين. أنت لا تحتاج لساحر أو مشعوذ لتحصل على شيء ما، فقط عليك أن تكون متحجر القلب، عديم المشاعر، سيء الخلق و أخيراً عليك أن تخون. تخون من تحبهم، تخون العهد و الوعد، تخون الثقة، تخون مبادئك و أخيراً تخون نفسك.

قبل يوم:
استيقظت مرام مفزوعة من نومها بعد أن عانت من كوابيس حرمتها الاستغراق في النوم . هرعت نحو الحاسوب تتفقد حالة برنامج الكتابة. تنفست الصعداء بعض الشيء فالخطأ الإلكتروني اختفى من تلقاء نفسه بينما ظلت الرواية الجديدة على التعديلات التي فُرِضَت عليها جراء ما حدث بالأمس. تهدج صدرها و تقطعت أنفاسها و أجهشت في البكاء قائلةً:
أين أنتِ يا أمي؟ لقد تكاتلت عليَّ النوائب و المصائب تحيق بي من كل جانب. أريد الموت يا أمي !!!! لماذا أنقذتني من الانتحار ؟ ليتكِ تركتني أشرب ذلك السم !! ليتكِ تركتني أنعم بالسلام؛ فعذاب الله أرحم بي من كل تلك المآسي.
استمر بكاؤها لساعة متواصلة حتى أُنهِكَت قواها و تمددت على أرضية الغرفة. حملقت بالسقف بقنوط و يأس شديد لم تعهده حتى حين أصابها ذلك الاكتئاب منذ ثمانية سنوات. توالت الذكريات الأليمة تباعاً كشريط سينمائي. أسوأها على الإطلاق حين هجرها خطيبها، و جارها و حبيب الطفولة منذ أن وعت على الدنيا بعد أن اكتشفت خيانته لها مع أعز صديقاتها. تتذكر كيف انجرفت في دوامة الحزن و الكآبة، و حاولت الانتحار لكن أمها أنقذتها في أخر لحظة. سوء الحظ يلاحقها منذ الولادة حين اكتشف الأطباء أنها تحتاج لعملية جراحية و هي في عمر 48 يوماً فقط . كانت عظام الجمجمة تنمو بطريقة غير طبيعية و بمعدل سريع لتضغط على المخ و لو لم تتم الجراحة لكانت في عداد الموتى. بعدما كانت بنت عامين احتاجت لتكرار الجراحة لنفس السبب و أيضاً عند سن العاشرة. خلفت تلك العمليات ندبات بعرض رأسها من خلف العينين وصولاً لمنتصف الرأس فاضطرت لإجراء عملية زرع للشعر و التى كانت مكلفة و مرهقة جداً. غيرها الكثير من الحوادث التي شارفت فيها على الموت لكنه كانت تنجو بطريقة ما غريبة بل مريبة. انغمست في ذكرياتها المؤسفة حتى سمعت تلك الهمهمات مرة أخرى قريبةً جداً من أذنيها لدرجة أنها شعرت بحرارة أنفاس قوية فالتفتت بهلع يميناً و يساراً لكن لم يكن هناك أحد. انتفضت من نومتها و هرعت لخارج الغرفة. أغلقت الباب خلفها بقوة و حاولت سد أذنيها بكفيها، لكن تلك الأصوات ظلت تعلو و تعلو حتى استطاعت تفسير ما يُقال. سمعت بوضوح جملة واحدة فقط و هي : دعي الأمر أيتها الجبانة. لا جدوى مما تفعلين.
راعها ما سمعت و أخذت تصرخ بهستيريا و تدق رأسها بالحائط لكن الجملة ظلت تتكرر فسألت مرام بصوت محشرج: من أنتِ ؟

مريم
(( يا إلهى كم أكره ما أنا عليه، أبغض ذاتي، طباعي، سلوكي و ردود أفعالي مزرية مثيرة للشفقة. أشعر أنني مكبلة بالقيود التي تحجم روحي و تشل إرادتي. بداخلي إنسانة متمردة قوية ثائرة لكن كل ذلك يصير سراباً عندما يحين وقت التنفيذ، وقت الأفعال، اتخاذ القرار و المواجهة الفعلية. أشعر أنني مسلوبة الإرادة مغلوبة على أمري ولا حول لي ولا قوة. لم أختر أياً مما أنا فيه الآن و لم أطلبه. أحببتُ خائناً وضيعاً و ضيعتُ أروع سنين عمري لاهثةً خلف رضائه و حبه، لكني كنتُ مجرد عبء قديم يخشى التخلص منه لمجرد تأنيب الأهل و العائلة. أفكر بالانتقام منه كل ليلة بل كل لحظة لأطفئ لهيباً مستعرة ناره بجوفي تحرقني حتى صرت رماداً أسوداً كسواد أيامي.في كل ليلة أعقد العزم على قتله هو وعشيقته و قد رسمت خطةً محكمة الأبعاد. أستيقظ من نومي عازمة على المضي بخطتي لكن هناك ما يلجمني، هناك شيء ما يقوض حركاتي، هناك كيان ما يسيطر على أفعالي. هل هو سحر سفلي ؟ هل هو شيطان مريد ؟ أشعر أنني حشرة تحت الميكروسكوب محشورة بين شريحتين زجاجيتين أتابع مسلسل حياتي من خلفهما غير قادرة على الاعتراض أو التغيير. أصرخ بكل ما أوتيت من قوة لكني كما قلت محشورة مسجونة مكبلة. أغط في نوم مقلق مفعم بالكوابيس المفزعة حيث أراني أدخل مصحة لعلاج الاكتئاب بعد أن حاولت الانتحار بتناول سم الفئران. ما هذا العبث ؟ أنا و إن كنتُ منكسرة مذبوحة الخاطر، لكني لست بتلك التشاؤمية السوداوية الانتحارية. أستيقظ لأجد نفسي بالفعل داخل المصحة يحيطني المجذوبون و فاقدي العقل من كل اتجاه. أصرخ و أصرخ و أنادي على أي أحد ليساعدني لكن لا مجيب. كيف أتيت هنا كيف حدث ذلك؟ أين أمي و أصدقائي ؟ هل تخلى الجميع عني؟؟ سأعاود النوم لأستيقظ من هذا الكابوس المخيف. أين أنا الآن ؟ خرجتُ من المصحة و لكن مهلاً! الزمن يشير أنني قضيت ثلاث سنوات بتلك المصحة لأنني أعاني من الاكتئاب !!!! يا إلهى ما هذا الهراء سأفقد عقلي بالتأكيد. أنا في بيتي الآن أجلس أمام مزينتي لكن ما يوجد عليها يقلقني بشدة؛ فهي ليست مساحيق تجميل أو زجاجات عطور أو حُلي، لكنها صفوف من علب عقاقير إسطوانية صفراء عليها ملصقات تحمل اسمي و اسم الدواء و جرعته. لكني أشعر أنني على ما يرام فما هي حاجتي لكل تلك العقاقير ؟ خرجتُ من غرفتي لأجد أمي تحضر الطعام بالمطبخ ثم تنظر لي بابتسامة حانية، و نظرات شفقة و عطف مبالغ فيه. حملقتُ بوجهها لعدة ثوانٍ ثم سألتها عما حدث لي، و كيف أدُخِلتُ المصحة و لماذا ؟ زادت نظرات الشفقة لديها و نزلت دمعات ساخنات على وجنتيها ثم احتضنتني بقوة و قالت : انسي الماضي يا عزيزتي، لا أحد يستحق حبكِ و إخلاصك. انسي ذلك المعتوه الأبله و أفيقي لحياتك و مستقبلك.
لم أعي ما قالت و لم أستوعبه. هل تتحدث عن خطيبي السابق الخائن الأرعن؟؟ لكنني نسيته بالفعل و لم أعد أحبه بالأساس!!! لم لا تكف أمي عن إعادة تلك الجمل الغريبة أنني يجب أن أنسى و أستمر في المضي بحياتي و الخ الخ. لم يواسيني الجميع و يشعر بالتعاطف معي و الحزن لأجلي ؟ ما بال هؤلاء المجانين و ما هذا الهراء الذي يتفوهون به ؟! أمازلت أحلم ؟! عدت لغرفتي بعد أن كاد عقلي أن ينفجر من كثرة التساؤلات. جلست على أريكتي المفضلة أستمتع بمنظر النجوم كالمعتاد. خطة الانتقام مختمرة بعقلي و لن يوقفني ذلك الكيان أو ذلك السحر أو أياً ما كان. بأحلامي التي بدت واقعية للغاية رأيت نفسي غارقة ببحر من الأحزان و أمواج الندم تشدني للأعماق حتى انقطعت أنفاسي. قاومت بشدة للخروج من ذلك اليم اللانهائي لكن بلا جدوى. عقلي يصارع لإيقاظي من غياهب مظلمة تكبله و تشده للقاع بينما جسدي كله يرفض ذلك بل و يتخذ سبيله في الانغماس في الشجن و الاكتئاب، و يصر على فكرة الانتحار مرةً أخرى. أستيقظ فزعةً من ذلك الصراع المميت لكني لا أشعر بشيء. عقلي يعمل لكنه ليس المتحكم بجسدي. من المتحكم إذاً ؟ لم يخيم الأسى و الحزن على الأجواء؟ أشعر بالاختناق حد الموت ، هل هو جاثوم أم كيان يتلبسني؟ ما هذا ؟! يداي تحولتا لورق مطبوع عليه حروف متناثرة . ما الذي يحدث لي ؟ هرعت للمرآة لأجد وجهي و جسدي كله عبارة عن حروف و كلمات. صرخت مرتعبة و ركضت نحو أمي لأجد كل ما حولي قد تحول للأبيض و الأسود. حروف تتطاير و كلمات تسبح يميناً و يساراً. أصوات صراخ و بكاء و استعطاف يتردد صداها وسط ذلك العبث اللامنطقي. حاولت الركض هروباً من ذلك الفراغ الشاسع لكني بقيت بمحلي لم أتقدم قدر أنملة. ما الذي يحدث الآن مجدداً ؟ أشعر أني أتضخم حجماً و الكلمات السابحة تنجذب نحوي و تلتصق بي كالمغناطيس. لكن مهلاً!! ربما ذلك هو التفسير لما أعانيه. يا إلهى هل ما أفكر به صحيح ؟؟ هل أكون …؟!!

مرام
سألت مرام بارتياع:
– من أنت؟
– أنا مريم بطلة روايتك.
– ماذا ؟
– كما سمعتِ.
– لكن!!!! لكن !!! كيف ؟
– استغراقكِ في الأحزان و أنانيتكِ المفرطة أيقظني في عالم الحروف حتى أيقنتُ أنني مجرد كلمات إلكترونية . لطالما شعرت أنني لست أنا، و أن أفعالي ليست نابعة من داخلي، و ليست بإرادتي فقررت التحرر من قيدك.
– لا يمكنكِ التحرر، أنتِ وهم و ما أسمعه الآن هو محض خيال.
– حقاً ؟!
– دعيني و شأني، ابتعدي أيتها الشيطانة.
ضحكات هستيرية تردد صداها بأذني مرام فتأوهت من شدة الألم و الخوف في نفس الوقت. اختفى الصوت فجأة و ساد صمت أكثر رعباً و بشاعة. تلاحقت أنفاسها و كادت أن يُغشى عليها من فرط الانفعال و بدا أنها ستفقد الوعي. انهارت جالسة تحاول استيعاب الأمر بطريقة عقلانية لكن لا وجود للعقل و المنطق هنا.
حاولت تمالك أعصابها و استجماع ما تبقى من شجاعتها ثم دخلت لغرفتها بصعوبة بالغة تجر قدميها جراً. نظرت للحاسوب بوجلٍ و كل ذرة من كيانها ترتعد خوفاً. طالعت السطور المكتوبة بارتياع و لوعة، و أخذت تقرأ و تسترسل باندهاش و حيرة غلبت خوفها. أصابها الحنق الشديد و نال منها الغضب قسطاً كبيراً و قالت صارخة: أين أنتِ أيتها اللعينة؟ من أنتِ حقاً؟ شيطان أم ماذا؟
أنا من صنعتكِ و ستكونين كما أريد أنا. أين أنتِ أيتها الجبانة ؟؟
بلغ منها الغضب مبلغه و همت بمحو ملف الرواية غير آبهةٍ بالعواقب لكن لم تستطع فعل شيء. حاولت إلغاء برنامج الكتابة نفسه لكن كانت النتيجة نفسها. أغلقت البرنامج ثم الجهاز بأيدٍ مرتعشة و جسد منتفض وًكأنها فقدت جزءاً كبيراً من شبكة جهازها العصبي و كتلتها العضلية. لحظات يسيرة و فُتح الجهاز من تلقاء نفسه ثم فُتح البرنامج و حدث نفس التشويش مرة أخرى. بدأت الهمهمات تعود من جديد أيضاً و كأن تلك الدوامة لن تنتهي أبداً في ذلك اليوم. بدأت تتحول لكلام مفهوم صادر من داخل عقل مرام نفسه ليس من الحاسوب كما ظنت في البداية. تابع ذلك الصوت الأنثوي الحديث إليها مرة أخرى و كأن شيطاناً يتلبسها و قائلاً:
– قلت لكِ أن تدعي الأمر و شأنه و أن لا جدوى مما تفعلين.
تلفتت مرام يميناً و يساراً و دارت حول نفسها عدة دورات كالمجذوبة تبحث عن مصدر الصوت. عادت تسد أذنيها بكفيها لكن عاد الصوت من جديد.
– أنا في رأسك يا مرام . أنا أنتِ كما تعلمين. ألم تكتبي ذلك في روايتك ؟ ألم تكتبي قصتكِ أقصد قصتنا الحقيقية ؟ هل كنتِ ستخبرين القراء بتلك الحقيقة ؟ أم ستكذبين أمام العالم كله و تتصنعين أنها قصة فتاة ما ؟
انهارت مرام من فرط الخوف و الانفعال و تلاحقت النغزات و الآلام في جميع أنحاء صدرها و قلبها حتى كادت أن يُغشى عليها. ظلت تبكي و تنتحب بحرقة دون أن تتفوه بكلمة واحدة. استأنف الصوت حديثه قائلاً:
– لم لا تجاوبين ؟ إذاً كلامي صحيح. أفسدتِ حياتكِ من قبل و الآن تريدين إفساد حياتي. ليس ذنبي أنكِ جبانة معدومة الكرامة. أيستحق ذلك ذلك النرجسي الذي هجركِ مع صديقة عمرك أن تودي بحياتك بل بحياتي أنا أيضاً من أجله؟ ضيعتِ أجمل سنوات عمرك بين مصحات العلاج النفسي و عيادات الأطباء النفسيين لكن ما ذنبي أنا في كل ذلك ؟ هل كنتِ ستخبرين قرائكِ أنكِ مازلتِ تعانين من الاكتئاب بل صرتِ مدمنة لتلك العقاقير التي تتناولينها بإفراط فقط لتحافظي على مظهرك الطبيعي أمام الناس، بينما حالتكِ يرثى لها. يالكِ من منافقة. هل كنتِ ستعلنين أنكِ مازلتِ تكنين لذلك التافه مشاعر حب و اشتياق ؟
– اخرسي يا لعينة ،اتركيني و شأني أيتها الشيطانة. دعيني بحالي يا ملعونة.
– أنا لستُ شيطانة، أنا النسخة المحسنة من ذاتك الفاشلة. لست تلك الضعيفة الواهنة و سأغير مصير حياتي و هذا ما قمت به بالفعل.
– أنتِ قاتلة …. قاتلة…. مجرمة
– و ليكن !! نعم قتلت حبيبكِ الدنچوان. قتلته بنفس السم الذي حاولتِ الانتحار به. سأمضي بحياتي مرتاحة الضمير و سأعيش أسعد سنيني التي أضعتها أنتِ برعونتكِ و حماقتك. سأسافر حول العالم و أستمتع بكل لحظة في حياتي. سأجد الحب مرةً أخرى، سأنجب الأطفال، سأشيب و أرى أحفادي ثم أموت بسلام.
– لا يمكن أن أسمح بهذا !!!! هذا عبث و هراء. لابد أنني أهذي بالتأكيد.
– فلتصدقي ما تشائين لكني أسديتُ لكِ خدمةً عظيمةً و ستعلمين تماماً ما أعنيه.
– ابتعدي عني…… ابتعدي ….. ابتعدي….
اختفى ذلك الصوت بعد ذلك الحوار العجيب ثم أفاقت مرام من انهيارها العصبي لكنها كانت ككتلة من الجيلاتين الرخو المنتهي صلاحيته. ظلت ساكنة بلا حراك لمدة زادت عن الساعتين تحملق في الفراغ لكنها فزعت فجأة كمن لدغته حية حيث تذكرت أن موعد تسليم الرواية هو اليوم. تحاملت على نفسها و اتصلت بدار النشر لتعتذر عن القدوم و لعدم إرسال النسخة النهائية للرواية. ردت عليها سكرتيرة الدار و صديقتها كذلك التي شعرت مباشرة أنها ليست على ما يرام. طمأنتها أنها فقط تشعر بوعكة صحية و ستكون بخير ، و أنها ستأتي لتسليم النسخة بنفسها للدار غداً. أخبرتها صديقتها أنه لا داعٍ لقدومها فقد أُرسلت النسخة بالفعل عبر البريد الإلكتروني ذلك الصباح، و أنه سيتم تدقيقها لغوياً و أملائياً ثم الشروع في الطباعة. أخبرتها أيضاً أن دفعة من النقود المستحقة قد تم تحويلها لحسابها في البنك منذ ساعة تقريباً. صدمة أخرى صفعت كيانها بعنف و زلزلته، و ظنتْ أن ذلك الكابوس لن ينتهي مطلقاً. شعرت بثقل هائل وسط صدرها و كأن حجراً كبيراً حُشِرَ بداخله حشراً. ارتمت فوق أريكتها المفضلة باستسلام تام فالوضع الآن صار خارج السيطرة. ظلت جالسة على أريكتها كجثة بلا روح على حتى حل المساء.
مريم
بعد عدة أسابيع …
اكتظ معرض القاهرة الدولي للكتاب بالزوار القادمين من كل المحافظات للمشاركة بفاعليات ذلك الحدث المهيب. في ركن بالقاعة الثانية جناح B16 تدافع عدد كبير من رواد المعرض لشراء رواية بعينها من مقر دار النشر هناك. كانت مرام تجلس خلف مكتب صغير خُصص لها للقاء المعجبين و المعجبات، و كتابة إهداءات لهم، و التقاط الصور معهم و مع زملائها من الكتاب. لقد لاقت الرواية نجاحاً هائلاً و حققت مبيعات قياسية حتى من قبل بدء معرض الكتاب. أتتها فتاة في السابعة عشر من عمرها لتكتب لها إهداءً و سألتها ببراءة: كيف استلهمتِ تلك الحبكة العبقرية ؟ أكثر ما أعجبني هو انتقام البطلة و تملصها من الشرطة. سيدتي لقد تخطيتي كل حدود الإبداع. ابتسمت مرام برقةٍ و همت بقول شيء ما لكن صوتاً داخلياً مألوفاً لديها همس بأذنيها بشيءٍ ما. تصلب وجهها لأجزاء من الثانية أصابت ريبة الفتاة لكنها سرعان ما تداركتِ الأمر و شكرتها بارتباك ملحوظ. شردت للحظات أخرى ثم واصلت ما تفعله بآلية حتى انتهاء اليوم و عادت لشقتها.
أخبرها ذلك الصوت الذي نسيت نبرته منذ أسابيع أن تكتفي بالابتسام و لا تنطق بحرف مما يعتمر بصدرها من عواصف و أعاصير تخبئها عن العامة بشق الأنفس. لم تكن تعلم أن الرواية الأكثر نجاحاً على الإطلاق ستكون هي الأبغض لديها. لقد عادت شبيهتها وليدة سطورها و حروفها لتطفو على صفحة نهر حياتها من جديد. عادت لتكمل ما بدأت و تغلق تلك الصفحة أو بالأحرى تلك الرواية لأجلٍ غير مسمى و تقضي على ذلك البركان الهائج بداخل صانعتها. عاد صوت مريم الذي يثير تردده أطناناً من الهلع بنفس مرام لينهي تساؤلاتها و حيرتها حتى لا تقوم بأمر غبي كأن تفصح عن الحقيقة مثلاً للناس فتخسر تلك الشبيهة حياتها بعد أن صارعت للانبثاق و الظهور. عادت مرام للارتماء بحضن أريكتها كالمعتاد و التي شهدت أياماً بل سنيناً من المعاناة و القليل من السعادة. غالبها النعاس بعد الزخم الذي عاصرته طوال ذلك اليوم العصيب. حدثت نفسها بإحباط قائلةً ( ربنا أكون أنا أيضاً شخصية في رواية أحدهم؛ فما يحدث لي تخطى حدود الجنون و تمادى في العبث. جاءها الصوت في مرحلة النعاس مقتحماً أحلامها بفظاظة و كأن ألف مطرقة تدق كل خلية من خلايا دماغها بنسق متتابع بدأ بطيئاً ثم تسارع حد الجنون مما أيقظها على صرخة رهيبة انخلع معها قلبها من شرايينه و أوردته و كادت صماماته أن تنفجر. بعينين حمراوتين باكيتين ظلت محملقة بالفراغ على يسارها حيث السماء ذات الظلام السرمدي يحيط بها خارجياً و داخلياً. أجهشت في البكاء و العويل حتى أُلجم لسانها حين سمعت صوتها مرةً أخرى يقول : لمَ كل هذا الرعب الذي تشعرين به ؟ إنكِ تحملين نفسك فوق وسعها و احتمالها. أغمضت مرام عينيها معتصرةً جفونها كاتمة أنفاسها فاختلج صدرها حتى كادت ضلوعه أن تتهشم. لم تستطع الرد و كأن خيطاً معدنياً تكاد تتذوق طعمه أُحيك بشفتيها مطبقاً إياها حتى لا تستطيع التحدث. عاد الصوت ثانية ليكمل:
أنتِ تعلمين أنني بداخل عقلك و سألازمكِ حتى قبركِ. إن أخبرتِ مخلوقاً بما حدث مثلما كدتِ أن تفعلي اليوم أمام تلك الفتاة سأحيل حياتكِ البائسة إلى جحيم. استسلمي لقدركِ، كوني تلك الفتاة المطيعة و دعي تلك الرواية و شأنها.
أومأت مرام برأسها في استسلام بائس حتى انقشعت سحابة الخوف. اختفت الأصوات تماماً و عم سلام هادئ لطيف على قلبها حين رأت ملك الموت قادم يتلقف روحها المنهكة و لأول مرة ستنعم بالسعادة الأبدية.
بهذه الجملة أنهى الكاتب المشهور معتصم الشناوي روايته العاشرة و التي حققت نجاحاً منقطع النظير و انهالت عليه عبارات الانبهار و الإعجاب، و تهافت عليه المنتجون لتحويلها لدراما تليفزيونية أو سينيمائية.

الكاتب

شارك هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *