ابتسامة جرافيك
أكثرُ حزنًا من ذي قبل، أجلسُ مُمدَّد الساقين فوقَ أريكة باتت تشبهني إلى حدٍّ كبير، أختلس النظر إلى صورتي التي تعكسها مرآة صغيرة في المكتبة التي أمامي، أنا عابس الوجه جاف الملامح إلى درجة تدعو للكآبة، حاولت جاهدًا أن أبتسم، فعلتُ بينما ظلّت ملامحي متجمّدةً في المرآة دون أن تتغير، تذكّرت صديقًا كان يخبرني دائمًا أن أبتسم كلما أراد أن يلتقط لي صورة تذكارية:
-اضحك يا أخي.. لو ضِحكت هتموت؟!
في رفٍّ آخر من المكتبة، كانت تقبع الصورة التي التقطها لي، قمتُ من جلستي وأمسكتُ بها، دقَّقتُ في ملامحي كثيرًا، لقد كان صديقي مُحقًّا، لقد آن لهذه الملامح الجامدة أن تتغيّر، أمسكتُ بالتّةَ الألوان وفرشاةً رفيعة كانت بجوارها، أخرجت أنابيب الألوان ثم قمتُ بإزالة أغطيتها، وضعتُ فوق البالتّة مزيجًا لا بأس به من الألوان المُبهجة، أصابتني حيرة حينما حاولت اختيار اللون الذي سوف أبدأ به، لذلك مزجت الألوان ببعضها البعض، قمتُ بإعادة رسم ملامحي الجامدة فوق الصورة مرة أخرى، عيني، أنفي، فمي، شَعر رأسي، ثم باعدتُ بين شفتيَّ قليلًا في محاولة بائسة لرسم ابتسامة.
انتهيتُ من إعادة تشكيل ملامحي، وضعت الصورة بجوار المرآة وعدتُ إلى جلستي فوق الأريكة، لمّا رأيت الصورة من بعيد قلتُ في نفسي:
-يالكَ من مهرّجٍ بائس!
تذكّرت أني لا زلتُ أحتفظ بأصل الصورة على اللاب توب الخاص بي، ولأنه دائمًا ما يكون بجواري قمت بتصفّحه على الفور، وصلت إلى الصورة فقمت بعرضها بواسطة الفوتوشوب، هل لي أن أجري بعض التعديلات على الصورة؟ ربما يستطيع الفوتوشوب فعلَ ما لم تستطع فعله الفرشاة.
هل أصنع لي ابتسامة أخرى ملوّنة؟
لم أرغب في رؤية نفسي مهرّجًا مرة أخرى؛ لذلك نفضت عن رأسي فكرة أن أرى نفسي مبتسمًا.
راودتني فكرة أخرى، ماذا لو قسّمت صورتي إلى مربّعات صغيرة؟
متكئًا على ذراعي بدأت في تنفيذ فكرتي، كانت رغبتي في معرفة الحيّز الذي أشغله من حياة الآخرين هي ما تسيطر على ذهني، قمت برسم مربعاتٍ صغيرة متلاصقة حتى امتلأت الصورة، افترضتُ أن كل مربّعٍ يمثّل دقيقة في واقعي الغائم، فكّرتُ في طريقة أحتسب بها الوقت الذي يمكنني أن أستحوذ عليه في حياة الآخرين، قمتُ بتظليل خمس مربعاتٍ متصلين، هكذا يكون لي خمس دقائق، ولكني تذكّرت أنه لم يسبق وقد حدث ذلك، قمت بإزالة تظليل مربّعين ليبقى هناك ثلاث مربّعات، هكذا يكون الوقت ثلاث دقائق متقطعة، إن ذلك أقرب إلى واقعي الآن.
تبًّا لمخترع الفوتوشوب، ذلك البرنامج الشيطاني يمكنه إحداث تغيير جذري في صورتي، استبدلتُ ثيابي بثيابٍ أخرى، وضعتُ شعرًا مستعارًا لرأسي، واستبدلتُ لون عينيَّ باللون البنيِّ، وأخيرًا وضعتُ لوجهي لحيةً تُشبه لحية بالبو.
أبدو الآن مختلفًا تمامًا، شخصًا آخر غير ذلك الذي يقبع داخل إطار الصورة البائسة، أنا صورةٌ إذًا، أصبحتُ أؤمن بذلك في الفترة الأخيرة، أقبع في نقطة لا يمكنني عبورها حتى الآن، لا يرى الآخرون منّي سوى صورة وجه غير مكتمل، فلماذا لم أقم بتغيير لون عينيّ إلى اللون البنيّ فقط وأترك تفاصيل الصورة كما هي؟
استبدلتُ خلفية الصورة بأخرى، قمتُ بإزالة البحر والقوارب الشراعية التي تظهر من خلفي، ثم قمت بتركيب خلفية خضراء شاسعة في محاولة لإضفاء البهجة على الصورة، لقد أصبح كل شيء مبهجًا، خلفية الصورة، مظهري الخارجي، إن الشيء الذي لم يتغيّر فقط هو ذلك الجمود الذي يسيطر على ملامحي.
قلتُ في نفسي:
-تبًّا لمخترع الفوتوشوب، كيفَ لم يفكر في أداة يمكنها انتزاع الحزن من الملامح؟
على مضضٍ، بحثتُ عن وجهٍ مُبتسم عبر “جوجل”، تراصّت أمامي وجوه عديدة تعلوها ابتسامات صاخبة، حاولتُ مُضاهاتها قدرَ ما استطعت، التقطت عديدًا من الصور لنفسي وأنا أُقلِّدُ ضحكاتٍ كثيرة، فتحتُ فمي على مصراعيه وأغمضت عيني مُدَّعيًا الضحك، استلقيتُ على ظهري وادَّعيت أني أصفع جبيني بيدي ضاحكًا، قفزتُ في الهواء وأنا أضحك بطريقة هيستيرية، ثم جلست لأشاهد نتيجة تلك التجربة.
أمسكتُ هاتفي، مرَّرت إصبعي على شاشة الهاتف لأتنقّل بين الصور التي التقطتها، لقد بدت لي ابتساماتي سخيفةً ومُصطنعة.
لا بد من أن أراني مبتسمًا اليوم، ولأنّني لا أمتلك مهارةَ الابتسامة لجأتُ إلى تلك المهارة التي أجيدها، الجرافيك، من بين الوجوه التي أظهرتها نتيجة البحث، انتقيتُ أكثر وجه مشابهٍ لي، خمري اللون، لحية كثيفة إلى حدٍّ ما، أسنان بيضاء، إنه يُشبهني في كل شيء، فيما عدا ابتسامته الناضجة.
بدقَّةٍ بالغة، استخدمتُ الفوتوشوب في قصِّ الوجه المُبتسم، وبدقَّةٍ أيضًا نقلتُه إلى صورتي، واستبدلتُ وجهي القديم البائس.
عبر حسابي الشخصي، وللمرة الأولى، قمتُ بنشر صورتي الجديدة، ثم دوَّنت هذه الكلمات في “الكابشن” أسفل الصورة، “أنا ذلك القابع خلف الوجه المُبتسم”.
*
قصة قصيرة
محمد عبد الرحمن شحاتة
اترك تعليقاً