الثلاثاء بالأبيض والأسود
الشياطين أيضًا كانوا يعرفون خبر الأمطار الغزيرة المُحتمَلة، ليس ذلك غريبًا، وكل النشرات والصفحات الرئيسية لمواقع الأخبار على النت نقلتْ توقعات هيئة الأرصاد الجوية، وأعلنتها من مساء الجمعة أن يكون الثلاثاء التالي هو الأسوأ، في ذروة الموجة الباردة التي تعصف بالبلاد.
هذا الشيطان، الذي يهوى التسابق مع الريح، ويغلبها في كل مرة؛ طافَ كثيرًا خلال الأيام الثلاثة التي سبقت اليوم المُنتَظَر.
رأى المرأة ” أم حسن “، التي تخاف على ابنها الوحيد من الهواء الطائر، لقد نسيتْ ما ردده الناس عن السماء التي ستنفتح فوق الرؤوس، وتركت الولد يذهب لمدرسته بشكلٍ عادي، وينال حصته المقررة من اللعب اليومي.
ظل الثلاثاء بعيدًا عن عقلها حتى وجدته فوق رأسها على غفلة، كل ما قيل من تكهنات عن الماء الذي سيُغرِق الشوارع، والبيوت تجَسَّم أمامها في شيء مُتكور وغامض سيأخذ الولد.
لا، لن يذهب للالولد، بل ستبقيه بجوارها حتى آخر الأسبوع، الولد سعيدٌ بقرار أمه، يدب بقدميه من الفرح، تطوف بقلبه الكلمات الحبيبة، التي تحلو أكثر بإيقاع جماعي صاخب:
“الدنيا تِشتي.. وأروح لِسِتّي.. تِعملِّي فطيرة.. تحت الحصيرة.. آكُلها وأنام.. مع الحَمَام”.
ابتسم، ودلك كفيه ببعضهما، استبشر بالإجازة التي ستطول، وبأنه لن يرى المدرسة لعدة أيام، ثم دبَ مرة أخرى بقدميه اللتين سيخوض بهما في طين الشارع، واللتين ستغرقان في الماء المتجمع على سقف البيت، سيعاون أمه في النزح بأن يأخذ منها الجردل ويسكبه مرات، ومرات من فوق السطح، بعدها تكون المكافأة أن يحضن بيديه منقد القوالح وردية الحُمرة، يَلُم الدفء، ويُخزِّنه في كفيه المضمومتين؛ حتى يصبه كله في يديّ أمه الباردتين، إنه ينتظر كل ذلك من أول النهار.
رفع جسمه كله في قفزات متتالية شقية، سَدّدَ لكمات قوية لمساند الكنبة البلدي، ثم ضحك ضحكة طويلة الذيل، ومثله فعل شيطان الريح الواقف بقربه.
**
من النافذة غير العالية يمكن رؤية “الاستاذ شاكر”، الرجل الطيب برقبته الطويلة، وعصاه الأطول يقف مشدودًا في الفصل، تهدر منه الكلمات بانفعالٍ حقيقي نحو آذان الأولاد العفاريت في الصف الخامس، بالكاد يعلو صوته من قلب صخبهم المعتاد:
“الماء سيكون للرُّكَب، ناموا في بيوتكم، لأن غضب ربنا نازل على رؤوسكم، والشيطان نفسه سيفرح فيكم”.
العيون الصغيرة لامعة، ومفتوحة باتساع على مدى مُختلط، وغائم:
كيف هو شكل غضب ربنا؟ هل ستُظلِم السماء؟ وماذا يفعل الشيطان حين يفرح؟
لكنّ شيطانًا ثائرًا لم يكن فرِحًا بالمرّة، وهو يشاهد نفسه في خيالات الأولاد:
تكوين ناري أحمر، له قرنان في وجه مرعب شبه آدمي، ويجري مُتحولًا ملفوفًا في بعضه مثل كُرات النار.
يتأمل نفسه، ويُعدِّد الصفات التاريخية والهيئات التي يُمثّلونه بها، يُفكر أن البشر وضعوه عبر توالي القرون في خانة الخوارق المستحيلة، دون أن يروه،
في الحقيقة: هو شيخ أعور كسيح، رأسه كرأس الفيل، ومرة أخرى كرأس القرد، عيناه مشقوقتان بالطول.
لم يترك أبناء آدم شيئًا يخصه إلا وأفتوا فيه كثيرًا: في طعامه يكره الرُّمان والتمر، ومن الطيور يُحب الطاووس، ولا يحب أبدًا الديك والحمام!
لم يخطر ببال آدمي تخيله نسمة خفيفة تتسلل من أذنيه، لتدور في مخه ثم تنحدر تجاه القلب، دون أي تشوش.
ولا تصوره أحد نائمًا بين بتلات وردة، ومُرسِلًا نداء ما للنحلة كي تأتي، وتذوب في الرحيق.
لا، ولا أي صورة أخرى ابتكرتها تلك العقول العاجزة.
من نفس النافذة، يظهر الأستاذ شاكر وهو يسحب نفسه ويخرج من الفصل، في تلك اللحظة التي تَلتْ كلماته الحامية للأولاد، لقد نزل به هدوء غريب مُفاجئ، أغمض عينيه، ومسحَ بكفيه على وجهه، وشعره، وصله إحساس أن رأسه اغتسلَ بالهواء الطري البارد، تنهدَ يُردد همسًا طويلًا حُلوًا:
_نعم.. أرتاح من هَمِّهم وصُداعهم، أناااااااااااااام.
**
تقول رنا لهاني، وهما يمشيان خطوة خطوة على شاطئ النهر:
“لابد أن نُجهِّز السفينة من أجل الطوفان القادم”!
ووقفا من جديد ينظران للماء الكثير، هذا النهر غير مهتم بهما ولا بغيرهما،تُضيف رنا أنه سيظل هكذا كلاسيكيًا، وزاحفًا بين ضفتين لا يتعداهما، يبتسم هاني لأفكارها التي تبدأ بسيطة وتلقائية، لكنها تفتح له أبوابًا مدهشة، يقول:
“لا فائدة من السفينة، إن ماء السماء ينزل من كل مكان، وبلا ضفاف، ثم إن النبي “نوح” لن يرجع من أجلنا”!
يضحكان ويواصلان المشي، وهاني سكران بجموح الفكر والمشاعر عند هذه البنت، التي تمتلك وجهًا حيويًا يشبه طبق فاكهة، والتي تُغامر بخيالها للبعيد، وتأخذه معها راضيًا مرضيًا، ذلك البعيد كان ذات مرّة هناك، في دنيا الثلج الأبدية، على أرض القُطب.
مشيا، واغترفا الثلج، وتمرّغا عليه، ناما وعاشا بتلك الكلمة البيضاء السحرية: ثلج، ثلج، رغم ذلك، قالت له إنها بعد فترة ستملّ ذلك العالم الأبيض، وتبحث عن لون آخر، بأن تظل تحفر، وتحفر حتى تصل للطين، للأسود الغائب في الأعماق.
لكل هذا وأكثر يحبها هاني قبل أن يأتي ثلاثاء المطر، وسيحبها بعد ذلك أيضًا، هو الطالب الجامعي، والشاعر الذي يكتب قصائده من وحي عينيها الحُرَّتين، الخارجتين على أعراف وجهها.
“موعدنا يوم المطر”.. تقول رنا: “تمام، وهنا في نفس المكان، وفي نفس الموعد”.. يقول هاني، يداه الاثنتان تأكلان يدها الملمومة الصغيرة في سلامٍ لا يختلف أبدًا عن الحضن.
طالت الوقفة قليلًا، وداست أقدامهما أوراقًا بُنيّة وصفراء، لم يلحظا أنهما بجوار جذعٍ عتيق لشجرةٍ تبرك مثل فيل، ولا أخذا في بالهما مشهد خيط الريح التي دارتْ بالأوراق المُخرفشة، في دوامة ستشتدُ شيئًا فشيئًا، حتى أصبحا في القلب من دائرةٍ متسارعة عجيبة، بدت كأنها احتفالٌ خاص بهما.
**
دقات العصا هي المُنبه اليومي المعكوس للساهر، يظل صاحيًا حتى مشارف قرآن الفجر، متوحدًا مع مُذاكرته، وموسيقاه المنسابة دومًا في غرفته، لا يتهيأ للنوم إلا مع الدقات المنتظمة لعصا ” الحاج مصطفى “.
في الشتاء، وفي الصيف لا يتأخر”الحاج” عن فتح الجامع، وتشغيل الميكروفون على الشعائر، والابتهالات الصادحة.
هما جيران، وكلاهما يعرف الآخر في تلك البلدة الصغيرة، بينهما كلامٌ عابر أثناء النهار، رغم ذلك لم يحدث مرة واحدة أن دخل ” الحاج ” ذو الوجه الطيب غرفة الساهر، ولا تأبَّطَ الساهر ذراع الحاج حتى الجامع القريب.
يُفكر الساهر كثيرًا أن دقات العصا تجعل الشياطين تفر بعيدًا في تلك الساعة الباردة المشبرة، ذلك الإيقاع المكظوم يُرهب الجميع، وأولهم هو!
لا مفر من الاعتراف إنه يخشى تلك العصا النائمة في اليد المعروقة العفيَّة، ظلت هذه التصورات تستولد المزيد من تصورات أخرى في اليقظة والنوم، فبمجرد أن يسمع الدقات يخف إلى الشباك، مُحتملًا الهواء المُثلّج، ويبقى متابعًا ذلك الظهر العريض المحني قليلًا، والرأس المتمايل على تمتمات منضبطة مع إيقاع العصا، يأتيه خاطر أن الحاج يراه بظهره، وأنه سيلتفت ليقول له ما قاله ذات مرة: أصحو قبل الفجر؛ لأرى الدنيا قبل أن يراها الناس!
يهز رأسه بقوة، يريد أن يُبعد كل الخواطر، يتهيأ لنومٍ لا يأتي إلا بعد معافرة وفرك، يرى العصا من جديد في معركة رهيبة، تنهشها أسنانٌ نافذة تشبه مخلب النسر، تنتصر عليهم جميعًا، ويجرون أمامها، ثلاثة أو أربعة شياطين منهم استنجدوا بغرفته، مُختبئين من الملاحقة والإصرار على قطع دابرهم. رآهم يرتعشون، مُتكومين في ركن بهيئاتهم المتداخلة الهُلامية، يضحك في حُلمه:
ماذا لو علمتْ العصا أنهم عنده؟!
**
الثلاثاء.. في الثامنة صباحا:
منذ أول ضوء، وهذا الشيطان الكامن في مكانه على حافة النافذة، مشغول بمراقبة نوم الأستاذ شاكر، لقد بدأ القلق في السادسة والنصف، ومن وقتها، وهو يجوب السرير من أوله لآخره، أوشك أن يضرب دماغه في الحائط البارد، لماذا صحا، بلا أي داع، في موعده اليومي؟! الأدهى أنه كل ربع ساعة يُلقي نظرة على زجاج النافذة المقفلة، يرى تقلبات الإضاءة في مرمى عينيه، النور يُشع ويتوهج، ثم ينطفئ ويغيم، الشمس تلعب، تُبدل وجهها خلال الدقيقة الواحدة، وحين زادت الألعاب عن حدها بسطوعٍ قوي، وباهر اتخذَ قراره بالنهوض، بقي واقفًا في قلب الغرفة يتأمل النافذة، والأشعة الذائبة في الزجاج، ثم مشى بهدوء، شحنَ ذراعيه، وفضَّ الضلفتين، فغمرَ النور جسده كله، سطعَ على عينيه المتورمتين، فلم تتمكَّنا من رؤية أي شيء، بسرعة جذب زجاج النافذة، وأحكم الغلق هذه المرة، لفّ نصف دائرة في اتجاه الباب، خطا في الشقة الساكنة، دق نافذة الشرفة بعنف.
وضع يده كمظلة فوق عينيه، دار رأسه يمينًا ويسارًا في الشارع، ووجوه المارة، استسلمَ لحالة الأسى التي لم يتوقع سطوتها منذ التباشير الأولى للنهار.
في التاسعة والنصف:
وصل هاني أولًا، وبعد مرور عشر دقائق، لم ينتبه أنه تحرك حوالي عشرين مرة، في تلك المسافة القليلة الفاصلة بين جذع الشجرة العتيقة، وسياج الشاطيء، خلال ذلك، لم يكن يفعل إلا ثلاثة أشياء: النظر في الساعة، ورفع رأسه للسماء، ومحاولات اتصال لا تنتهي بموبايل رنا غير المتاح، يُفكر لو أنها كانت معه؛ لقالت، وأفاضت في وصف السُّحب وأشكالها المتحولة، يُخمن ما ستقول في مرور سحابة مستطيلة غامقة تجعل الوجود كله خيمة رمادية عظمى، بعد ذلك تخرج الشمس بتدرجٍ يمحو أي أثرٍ لما كان.
لحظات تحبها رنا، التي لا يعجبها العجب، تعشق أن تتغير الأشياء وتتبدل، ربما وصولًا إلى قلب نظام الكون.
تأخرت رنا، قام هاني، ووقف على سور الشاطئ، ماء النهر معزوفة كمان هادئة، لا تشبه في الإيقاع دقات قلبه، ولا الضغطات العصبية المتتابعة على زر الاتصال.
يلعن الصوت الآلي البارد الذي يخبره بالنتيجة المتكررة، قد بدأ الدم يصعد إلى رأسه، سحقت قدمه الأوراق الجافة، نفخَ بقوة.
في العاشرة:
الولد حسن مل اللعب مع رفيقه، دخل البيت من جديد، وواصل النظر من الشباك، أمه مع أوانيها في المطبخ، صعد إلى السطح، وتمدد في مثلث مشمس على السقف الخرساني.
في الحادية عشرة:
يتقلب الساهر يمينًا ويسارًا، قبل أوان قيامه في الظهيرة يُرغم نفسه على نوم نفد رصيده.
حزينٌ هو؛ لأنه لن يتمكن من دخول الحلم؛ ليرى مصير أولئك الشياطين اللاجئين، سيحكي قصة حلمه في يوم ما، ويضع لها عنوانًا جذابًا لم يُحدده بعد.
لقد تركهم مجتمعين في ركن الغرفة، مانعًا عنهم شرارات البرق، وقصف الرعد في الخارج، اقتطع ورقتين متصلتين من نصف الجريدة، وغطاهم بها، بعد ذلك لم يعرف شيئًا عنهم. انقطع الحلم، وأغلق النوم بوابته إلى حين.
فتح عينًا واحدة في شبه عتمة، يستمع الهمس: هناك مطر، لكن ليس كما رآه وهو نائم، تبدلت اللحظات، وتداخلت، حتى استقرَ تائهًا في منطقة وسطى بين النوم واليقظة، فتح العين الأخرى، ونظر في الركن نفسه، لكن لا شيء، تمتمت شفتاه المغروستان في الملاءة المُبللة بريقه:
” اختفوا، تبخروا، انصرفوا بلا إزعاج. ”
ضرب على جبهته متذكرًا الحدث الأهم في آخر الحلم: لقد كان وجه الحاج مصطفى موجودًا معهم في الغرفة!
في الواحدة ظهرا:
يصل هاني إلى بيتهم، لا يفعل شيئًا سوى تكرار الخروج، والدخول من حجرته إلى الشرفة، والعكس، يبسط كفه في الهواء، يشعر ببوادر قطرات خفيفة لا يبدو أنها سستقو، يقبض أصابعه ويلعن المطر، ويقسم بالله أنه لو رأى المجنونة المستهترة رنا في هذه اللحظة؛ لخنقها.
في الثالثة والنصف:
يتلهى الأستاذ شاكر بمشاهدة التلفاز، ومتابعة حالة الجو، هناك أمطار في أماكن أخرى بعيدة، لا يُكمل بقية الأخبار؛ بسبب الصداع القوي الذي يضرب في أنحاء متفرقة من رأسه.
في الخامسة:
أم حسن تطلب من ” المضروب ” ابنها أن يُذاكر قليلًا، لأنه من ” صباحية ربنا ” لم يفتح كتابًا.
في غبشة المغرب:
أخيرا غفلتْ عين الساهر قليلًا، على الفور سحبه الحلم للداخل، فعلًا..
هذا وجه الحاج مصطفى مبتسم وهادئ وحده في جانب، في الجانب المقابل ما زالوا هناك، لكنهم أزاحوا ورقة الجريدة، المفاجأة أن العصا في ركن ثالث واقفة بثبات ورسوخ!
وهو، الساهر.. يدور، مع موسيقى قادرة على عزل الغرفة كلها عن زلزلة المطر الغاضب في الخارج، هناك إحساس أنهم في طائرة تصعد بهم لأعلى،
يتأكد ذلك بعد قليل، حين تدور الغرفة السحرية نفسها، بكل ما فيها ومَن فيها.
بعد ذلك:
ستارة من قماش أسود كثيف مفروشة بطول المسافة بين السماء والأرض، ستارة خبّأتْ خلفها النجوم والقمر، وكل شيء.
****
اترك تعليقاً