المستفزة

المستفزة

كنت في أحد تلك الحالات المألوفة لدي و قد تملكني الضجر، يقولون هو حال الرجال عادة و يقولون هو شأن الفنانين و يزعمون أنه من سمات برجي المتقلب المزاج.. ليكن أيا من ذلك بل غالبا هو ليس أيا من ذلك! هل يتغير شيء بهذه الارهاصات؟! هراء! استهلاك ذهني! حتى ذلك مللته!

كنت كلما تملكتني هذه الحالة عرجت إلى مرسمي و فرشاتي و ألواني و تركت أناملي تعبث ببياض أوراق الرسم فتخلق  فيه نبض ما يعتمل به صدري و يجنح إليه خيالي، اعتكف بالساعات حتى تكتمل اللوحة و قد جسدت شيئا ما خُلق بقلبي و تحرر من قفص أضلعي بحثا عن حرية ينعم بها على صفحة أوراقي فيترك صدري رحبا و ذهني صافيا.

إلا إنني اليوم لا أجد شغفا للرسم، أدخل المرسم، أقلب بين الفرش، أملأ البالت بلا حماس، انتقي ألوان فاقعة لعلها تحرك حماسي؛ أحمر، برتقالي، أزرق، أخضر، بني لإضفاء بعض العمق و أبيض لكسر القاعدة.

مع ذلك لا أجد إقبالا في نفسي على فعل شيء، لا مجال للإنكار، لقد نالت مني تلك المستفزة! تلك المستفزة المسالمة! تلك المسالمة المراوغة! تلك المراوغة المتحفظة! تلك المتحفظة الصريحة ! كيف لها أن تكون كل ذلك؟ … و كيف لها أن تفلت من قبضتي؟

أنفض صورتها عن خيالي و أشوٍّها عمدا ،أعاند فأمسك الفرشاة كي ألهي ذهني عن التفكير فيها، أشعر بالرغبة في رسمها فيمتقع وجهي، لست براسمٍ للوجوه على أية حال! لم أتكمن أبدا من اجادة رسم الوجوه، أرسم رسما حرا، لم تطاوع فرشاتي أبدا تقاسيم و تفاصيل الوجوه، أظن ذلك كفيل لطرد تلك الفكرة السخيفة، لابد و أن ترحل تلك المستفزة عن ذهني، لابد أن أطردها من نفسي، فلتسكن نفسا أخرى تجول فيها فتعصف بخلجاتها و تعبث بإستقرارها كما تشاء، أما أنا فلا مكان لها بعقلي!

اعتدت ألا استضيف إلى عقلي إلا من تدخله طائعة، أجلسها بمقعدها- الوثير- الذي أخصصه لها، تحدثني منه وفق إدارتي للحديث، أقدم لها قهوتي “المخصوص” فتمتن بشدة لدماثة أخلاقي و كرم استقبالي و نظل على هذا الحال حتى يزول ضجري فأقف ببالغ الإحترام و قد رسمت ابتسامتي المهذبة على ملامحي  فتتلقاها  هي بامتنان و نتبادل التحية على وعد مني بلقاء قريب،  فتعود أدراجها مترقبة فرصة اللقاء المتجدد الذي أصدق وعدي به -كلما أصابني الضجر- حيث يكون تفضيلي لإحداهن عن الأخرى بتوقيت هذا اللقاء رهن طبيعة “ضجري” في تلك اللحظة.

لم ترفض إحداهن دعوتي قط بيد أنني كنت دائم الالتزام بحدود الجاذبية التي أجيد قياسها بمازورة دقيقة لا ينافسني في ذلك أمهر ترزي، فإن كان الترزي الماهر يجيد تفصيل الثوب الذي يغازل مفاتن النساء فيزيدهن ثقةً بجاذبيتهن، كنت أنا أجيد تفصيل الحوارات التي تغازل أفكارهن فتزيدهن ثقةً بجاذبية أرواحهن.

كانت تلك دوما صفقة رابحة حيث أن قليلات الحظ بالجمال لا يصدقن مديح شكلهن و الحسناوات لا يبالينه، و كلهن لم يعتادن اهتمام الرجل بجاذبية أرواحهن.

و هكذا فقد كنت أنا أتفرد بفيه بهن في هذا المحراب، ألقي فيه على أذنهن سحر كلماتي فيكشفن عن أفكارهن بطيب خاطر، و أغازلها أنا برفق بمناقشاتي فأفتن عقولهن العذراء بسحر يخدر تحفظهن و يوقعهن سبايا للتوافق الذهني و التناغم الفكري، و كنت دائم الحرص على الوقوف دون خدش حيائهن حتى لا أفزعهن أو أكلف نفسي ما لا طاقة لي به من الالتزام نحوهن، و قد كنت أدرك أنا دونا عن غيري من الرجال سطوة هذا السلاح الرقيق عليهن .

كان ذلك قبل أن التقي بتلك المستفزة؛ أجلستها بمقعدها لنرتشف القهوة سويا  كما توقعت، فلم تستقر عليه، بل ما كان منها إلا أن خلعت حذائها ذا الكعب العالي بأريحية شديدة ثم أخذت تتجول بعقلي حافية القدمين، بكل خفة و رشاقة لا تستقر لمقعد، تطأ من عقلي كل غرفة بلا اكتراث بينما تسترسل في الحديث في غفلة من تحفظي، و كأن فنجان قهوتي كأس خمر معتق أفقدني وعيي فأتابعها كالمغيب بينما تغزو حصوني!

و لكن لم يكن هذا هو سر إستفزازها لي، على النقيض فقد كانت عفويتها تلك هي ما سلبني كلفتي و أسقط عني دروعي،إنما كان ما استفزني حقا هو عدم انبهارها بالتحف الفنية التي زينت بها جدران  عقلي و التي اعتدت أن تسلب ألباب النساء، كانت تنقد نقدا حقيقيا لا يحمل طياته أي مجاملة، و هو ما لم اعتاد عليه ، بل زاد على ذلك كونها من قرر إنهاء اللقاء ما أن أنهت جولتها العابثة.

ودعتني بنفس ابتسامتي الدمثة الودودة، غير أنها لم تعدني بأي لقاء!

هل استقرأت المستقبل و آثرت أن تبادر هي بالانسحاب؟

أم لها مثل حالي أطوارا من الضجر؟

لما أستفزني الآن ما سبق لي أن فعلته بالأخريات دون اكتراث؟

كنت دائم العذر لنفسي حيث لم أتجاوز مع أي منهن الخطوط الحمراء!

فهل كنت حقا بريئا من ذنب قلوبهن؟

الآن أعلم علم اليقين فداحة ذنبي  و إن كنت قد علمته في قرارة نفسي من قبل، اليوم أسقتني “بفنجان قهوتي” مرارة هذا الشعور الموحش المستفز

… و لكن هل انتهى بالفعل لقاءنا؟

و إن كان كذلك فلماذا تتصرف و كأن عقلي دارها؟

، و كيف أضحى هو كذلك بالفعل رغما عني!!،

بل و أصبح أيضا مرتعا لظلها، و ما أخف ظلها!

تقتحم أفكاري متى تراءى لها حتى صرت -أنا- أنازعها ملكيتها لعقلي!

و لكني لست مرحبا بهذا الإحتلال الغاشم، زلزلني هذا الاختراق و زعزع ثباتي، انتبهت إلى فقدي السيطرة على وجودها بعقلي متأخرا-جدا – أخشى أن يكون الأوان قد فات. فمتى طاردتها بأفكاري راوغتني و تسربت إلى قلبي لتعبث بصماماته فتضيقها لتقتر تدفق دمي علي تارة و قد تركت جسدي منهكا خائرا و تبسطها تارة أخرى فيضخ الدماء بجسدي مضطربا ثائرا  لا يستقر له حال، تلك المستفزة !

و كأنها لعنة كل من سبقنها من الفتايات اللائي خلفت موعدهن!

خطر ببالي فكرة عجيبة بل مجنونة، هذا ما أحتاجه تماما! أخيرا ! قررت أن أرسم معصوم الأعين؛ أبتسم لجنون أفكاري، لا أنكر أبدا مدى افتتاني بجنوني، نعم بي من الجنون ما يحقق لي الاكتفاء الذاتي!

ليس لدي أي رصيدا لأتحمل جنون تلك الفتاة الغريبة! يلا السخف! ها  أنا أفكر بها  ثانيةً!

..كلما هربت منها أعود! فلأنفذ خطتي، هي ملاذي الوحيد من هذا الوسواس!

أنظر إلى الألوان جيدا و قد حفظت عن ظهر قلب مكان كل لون قبل أن أعصم عيني، بدأ الحماس يوقظ قلبي فيضخ فيه الحيوية، يسري بدمي نبض قوي أحسبه بالقوة الكافية لغسل سمها من كياني! أوف! ها أنا ذا أعاود الكرة بالتفكير فيها!

أعصم عيني و تستهويني التجربة المجنونة فأبدأ بالتلوين، و قد إنتقلت إلى عالم آخر كعادتي مع فني؛ لا حدود لخيالي، أركبه كفارس ماهر فيجمح بي لعنان السماء بسرعة لا تجاريها همومي فأتحرر من ملاحقتها لي.

أطلق لفرشاتي لجامها، أغمسها في الأبيض، أفكر في اليمامة البيضاء التى حلّت بشرفتي نهارا بهديل وقع على مسامعي بخشوع أوجل قلبي، و اتذكر سنة إبنة أختي التي أرسلت لي صورتها و هي تشق لثتها كحبة لؤلؤ حيث أضفت على جمال ابتسامتها فيضا من البراءة. ثم أنظف الفرشاة و أغمسها ثانية في البرتقالي، و أتذكر مشهد الشفق الخلاب الذي تابعته من أعلى جبل سانت كاترين.

انتقل بفرشاتي إلى اللون البني فتتسرب إلى أنفي رائحة القهوة الزكية المنبعثة من فنجاني الأنيق، تلك القهوة التي سحرت ضيفاتي مرارا و أغرقتني وحدي في ثمالة طيف المستفزة كلما لاح بخيالي.

أسرح قليلا ثم أستعيد تركيزي لكي استرجع موضع الألوان، ثم لا ألبث أن أغمس الفرشاة في الأحمر و أتذكر عيد الحب، و كل الورود الحمراء التي اشتريتها لشتى البنات التي عرفتهن، كلهن بإستثنائها، فقد كان لها من التحفظ ما يمنعني أن أجرؤ على ذلك!

و بالرغم من ذلك جابت حافية القدمين بغرف عقلي! حقا إنها مستفزة!

و لكني الآن على جواد خيالي و لن تلحق بي أبدا و إن كنت أعلم أنها لن تكابد جهدا لتفعل ذلك!

أسحب الفرشاة بعد أن نظفتها و أغمسها في الأزرق و أمسح بها على سطح اللوحة و أنا أتذكر زرقة البحر من كبائن المنتزة، و أتذكر صفو سماء المخيم حين اعترشت و أعز أصدقائي أرض الصحراء في حديث استرسل حتى الساعات الأولى من النهار.

ختمت باللون الأخضر و قد تخيلت شجرة البلوط التي تفرش ظلها على الكازينو  الذي اعتدت أن أدعو إليه من انتقيتهن بحرص لتسلية نوبات ضجري ، إلا هي فما كنت أجرؤ على تلك الدعوة التي لم ترد لي من قبل و خالجني شعورا خفي إنها كانت لترفضها يقينا.

مرت ساعات نسيت معها الوقت، و قد استحوذت علي التجربة بسحر و متعة لم اتوقعهما و نجحت تماما في إقصاء صورتها عن ذهني، بل نجحت في إقصائي عن الواقع، و هو ما كنت في أمس الحاجة إليه.

ابتسمت لنفسي بنشوة الانتصار و قد غمرني الزهو  باستعادة قبضتي على أفكاري -أخيرا- حيث طردتها من مرتعها بعقلي الذي تجرأت على اقتحام حجراته رغما عني.

لا أعلم لماذا شعرت بأن لوحتي اكتملت، و كيف قررت أنه آن الأوان أن أضع فرشي، و أنزع عصابة عيني، كانت دقات قلبي تتبارى لتتلصص نتيجة تجربتي العبقرية، كنت على يقين أن النتيجة ستكون مبهرة و فريدة، فككت عقدة المنديل و ظلت عيناي غائرتان بضعة ثوان إثر الضغط عليهما لفترة طويلة، حاولت أجفاني جاهدة إستعادة لياقتها، بدأت الرؤية تتضح شيئا فشيئا و كادت دقات قلبي المتبارية أن تتوقف من الشلل حيث تبين لي أنني رسمتها!! نعم.. رسمت المستفزة!

شارك هذا المقال

Comments (1)

  • أمنية عز الدين Reply

    أكتر من رائعة. قلم متمرس وبليغ
    في انتظار قصص كتير بإذن الله وأول عمل روائي.

    18 يوليو، 2023 at 8:19 م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *