حافلةُ عمّي كْريمُو
لديك سيّارة، بمقدورك أن تذهب بمفردك في رحلة دون الحاجة للذهاب في حافلة مكتظة..
قالت ثُريا وهي تربط شريط ضفيرتها الطويلة مخاطبة مراد الذي كان يصغي إليها بشغف، فما تنقله ثريا من أنباء لا يمكن أن يكون خاطئا أبدا، خصوصا عن كاتيا صديقتها، فتاة أحلام مراد التي لم تقع عينها على عينه يوما على رغم أنه لا يوجد من لا يعرفه في الجامعة كلها، بسيارته الفاخرة وعينيه الزرقاوين وقمصانه الحريرية الملونة، وتلك المشية الغامرة بالكبرياء والتفاخر، الآن وقد علم بأن أصدقائه يعوِّلون على الذهاب في رحلة معا مع انتهاء السنة الجامعية الأخيرة لن يمكنه تفويت فرصة كهذه بعدما سمع من ثريا بأن كاتيا سترافقهم أيضا، سألها متطلعا:
هل صحيحٌ ما أخبرتِني به أمس؟
مهلا! في سؤال كهذا يخصُّ الأخبار وما شابهها عليك أن تكون حذرا في كل تفصيلة تريد السؤال عنها.. فعقل ثُريا يكتظ بعدد لا يُحصى من الأخبار بكل تواريخها الدقيقة التي لا تخلط فيما بينها أبدا..
أجابت بفكر شارد:
ماذا؟ تقصد صبيحة اليوم الذي أوسع فيه طارق رياض ضربا بعدما اكتشفه يدسّ يده في حقيبته ليخطف منه هاتفه دون أن يشعر؟
كلا..
لا بدّ وأنك تعني عشية مدّت ليندا ذراعها من خلفي وبيدها المقص وعينها على ضفيرتي الطويلة لتقصها عن آخرها.. ثم حين خطفتُ منها المقص وكدتُ أقطع به لسانها لولا أنها فرّت منِّي..لقد ذكّرتَني بها..حسابها معي لم ينتهي بعد..
بل أقصد كاتيا..
أجل، أجل، سترافقنا في الرحلة، لكنها لم تكن لتفعل لو أني لم أتحايل عليها..
وبحماس قال بعدما ركض سريعا قبلها:
ممتن جدا لتحايلك..
وبغير اكتراث التفتت ثريا خلفها قبل أن تغادر هي أيضا، وبنظرة شاملة لكل ما حولها شعرتْ بشوق مفاجئ وهي تعلم بأنها ستفتقد الجامعة التي درستْ فيها مع أعزِّ أصدقائها.. ثم انصرفت بعد ذلك تمشي بخطوات سريعة خارجا.
“صبيحة يوم السبت، في حدود الساعة التاسعة والنصف توجهوا نحو المقهى الكبير، ستجدون الحافلة بالانتظار.. أحضروا ما يكفي من الطعام لأني لن أتشارك لمجتي مع أحد”.
كتب أصيل هذه الرسالة النصية وبعثها لجميع أصدقائه مؤكدا على العبارة الأخيرة “لن أتشارك لمجتي مع أحد”، فأصيل بإمكانه أن يفعل أي شيء كأن يتخلى عن إصبع من أصابع يديه دون أن يكترث أو يقتلع إحدى عينيه ليهديك إيّاها بكل رضى عدا أن يناولك قضمة واحدة فقط من سندويش الفريت أوملات الخاص به..
كانت ثريا أول من وصل مع صديقاتها حيث المقهى الكبير، تقدمت لتتفحص الحافلة من الداخل وهي تطل من الباب معتقدة أن الوقت ما يزال مبكرا للجلوس في الداخل، رأت رشيد متكئا في مقعده بقامته الطويلة وعدم انتباهه المعهود وهو يصغي باهتمام بالغ وتركيز للأغاني من سماعات الأذن التي لا تفارقه أبدا، نادته بصوت عالي:
رشيد، رشيد متى وصلت؟
لم يُجب بشيء وظل يُحرك رأسه طربا بما يسمع، لكنها أصرّت تناديه:
رشيد، رشيد!
وبحركة مباغتة منه، رفع رأسه نحوها ونظر إليها بعينين بيضاوين بالكامل وفم مفتوح تنزلق منه كومة متشابكة من الديدان، لم تصدق ما رأته أمامها ولم تقوى قدماها حتى على الفرار فثبتت في مكانها تصرخ بذعر وقد أشاحت بنظرها وبدنها يرتجف بالكامل فيما كان رشيد لا يزال ينظر إليها ببصر ثابت في وجهها دون أن يتحرك، واستمرت في مكانها عند باب الحافلة وكأنها التصقت به.. كان صوت صراخها عاليا لم يتوقف فيما صديقاتها كنّ يقفن خلفها تماما ويصلهن الصوت واضحا جدا فلماذا لم يسمعنها تصرخ.. فجأة شعرتْ ثريا بلمسة خفيفة على كتفها فالتفتت بذعر..
هلّا أفسحتِ قليلا لأمرّ؟ خاطبها رشيد بابتسامة وراح يدندن مقطعا من أغنية يسمعها..
تسائلت مع نفسها بارتباك.. كيف وصل إلى هنا؟ لقد رأيته يجلس على مقعد الحافلة الخلفي قبل ثوانٍ من الآن، وبذات الابتسامة ظلّ ينتظر أن تفسح له فدخلت مشدوهة وتهالكت على أقرب مقعد في الحافلة في حين عبر رشيد بخفة مدندنا ليجلس في الأخير.. في المقعد ذاته الذي رأته فيه قبل قليل.. استردّت ثريا أنفاسها في ذعر واضح.. التفتت خلفها لتجده وهو يجلس بهدوء واسترخاء.. كان يبدو طبيعيا جدا بعينيه البنيتين وابتسامته التي لا تفارق وجهه، راحت ترمقه باستغراب واضح لكنه لم ينتبه لها، هل ما رأيته قبل قليل كان حقيقيا؟ أعتقد أنّي قد تهيأتُ الأمر فقط.. أرجو أن يكون كذلك، لم تمر سوى لحظات حتى أقبلت كاتيا بمشيتها المتمايلة بتباهي، مشتْ صوب ثريا التي كانت تجلس جامدة في مكانها..
ارتمت على المقعد بجانبها.. حدقت في وجهها الذي كان يتعرق ويديها اللتين كانتا ترتجفان، سألتها بقلق:
هل أنتِ على ما يرام؟
كانت ثريا تخشى أن لا يُصدّقها أحد وهذا ما كان سيحصل بالطبع فحاولتْ تجاوز الأمر والتصرف على طبيعتها قدر المستطاع، التفتت بثقل إلى الجالسة بجانبها وقالت بهدوء مصطنع:
أجل.. أنا في أحسن حال.
لا يبدو لي هذا واضحا..
بلى إنه كذلك.
هل أخبرها؟ لا، يستحيل هذا، لن تُصدق كاتيا شيئا مما حدث، إنها لا تُحب الحديث سوى عن موضة الثياب وأحدث أنواع تسريحات الشعر الخاصة بالمناسبات، كيف ستُصدّق موقفا مرعبا حدث معي قبل قليل، سأخفي الأمر وحسب.. لم تكف ثُريا عن محادثة نفسها بينما نهضتْ كاتيا لتجلس في الأمام بمفردها وهي التي لم يعجبها منظر صديقتها وارتباكها الذي كان مزعجا.. أطلّت خارج النافذة فترامى إلى بصرها بقية الطلبة يتوافدون للركوب في الحافلة من بينهم مراد الذي كان يتقدمهم فدخل قبلهم بابتسامة كبيرة وقد ظهرتْ على خده الأيمن غمازة ملفتة يستقصد إظهارها بأن يستدير بوجهه يمينا، ولو كان بإمكانه لتكلم بفم معوج طوال وقته فقط لتتضح لكل من يراه ويدركوا أن له غمازة لا مثيل لها.. لمح كاتيا وهي تعبث بخصلات من شعرها البني القصير وبيدها مرآتها الصغيرة بجانب أدواتها من المكياج التي لا تستغني عنها في حقيبتها، وانعكس ضوء الشمس في عينيها فاتضح لونهما وبرقتا بلون أخضر ساحر، لم تنتبه لوجود مراد الواقف في منتصف الحافلة يرمق الجميع قبل أن يختار مقعدا مناسبا له، فانزعج وعدّل ياقة قميصه الأصفر الحريري اللامع ثم تفرّس النظر في ساعة يده.. وقال متأففا:
أين هو أصيل هذا؟ من المفترض أن ننطلق الآن.
نزع رشيد سماعة الأذن وقال:
هل وصلنا؟
ردّ عليه أحد الجالسين:
لسنا على متن صاروخ بل حافلة، ثمّ إنّ السائق لم يأتي بعد.
لقد تجاوز الوقت العاشرة والنصف وركب الجميع وهم ينتظرون في قلق وانزعاج من هذا التأخر الذي لم يكن محسوبا، وبدون إنذار اندفع أصيل داخل الحافلة وجلس يستردّ أنفاسه وقال:
فليعذرني الجميع، لقد جئت ركضا إلى هنا، يبدو أن الوقت سرقني وأنا أحضر أغراضي، أوصيتُ قريبي أنيس أن يبعث صاحب الحافلة إلى هنا قبلي بساعة.
قالت كاتيا:
وأين هو السائق؟
ردّ أصيل:
لا بدّ وأنه في مكان ما هنا في الأرجاء ولا شك هو قادم الآن.
وانتفض لينظر من النافذة فلمح عجوزا يتقدّم ناحية الحافلة بخطوات واثقة ورأس مطأطئ كأنما هو منغمس في التفكير، اقترب من الباب.. ففتحه.. وبرشاقة دخل ليجلس ووضع يديه على المقود باستعداد واستعجال للانطلاق، قال أصيل بحماس:
ها هو ذا.. أهلا بك يا عمّي.
التفت إليه السائق العجوز وبحاجب مرفوع وصوت غليظ قال:
أهلا بك.. أصيل.
رد أصيل بنبرة أشدّ حماسا:
لا بدّ وأنّ أنيس أخبرك عني، إنهم يلقبونني صاحب اللمجة، بعضهم لا ينادونني باسمي.
ابتسم السائق وقال:
وأنا بعضهم لا ينادونني أصلا.
اترك تعليقاً