حياة جديدة
ﺃلقى نظرة من الشباك المطل خارجا حيث تهب نسمات لطيفة من الجو الخريفي الذي ﺃتى قبل ﺃوانه بأيام تداعب فيها اﻷوراق وهي تتمايل متأرجحة تصنع صوتا خفيفا لا يسمع ﺇلا للقريب منه، غادرت زوجته أنيسة ﺇلى عملها وعلى ﺇثرها الولدين ﺇلى مدارسهما، سحب الستار ﺇلى موضعه ليرجع ﺇلى الحجرة وثبت ظهره على حافة اﻷريكة وقد ﺃلقى ﺃطرافه مستلقية تتخذ لها موضعا، وراح يحدق بعينين خاملتين عليهما ﺃثر من تعب وهو يزفر بتنهيدة من فمه، شعور غامر بداخله يقول ﺃنه رجل آخر لم يعد هو نفسه السيد حميد ﺃستاذ الفيزياء بوقفته الصارمة و نظرته الحادة التي يتوقد منها الحماس ناطقا وتبرزمنها الثقة التي تنم عن الذكاء والخبرة بصورة ظاهرة من التوقير والوقفة الجادة بالمعطف اﻷبيض وهو يغوص في معادلاته وتجاربه وهو يلقي بها ﺇلى الرؤوس المتطلعة المنصتة ﺇليه بحذر.
ثمة عاطفة غريبة تبسط نفوذها فتكتم على صدره وتسيطر عليه ولا يبدرمنه غيرعجز واستسلام وكأن لا طاقة له ليجاري بها قوتها، تلك الورقة التي ﺃبعدته عن حياته الحقيقية وﺃحالته ﺇلى المعاش دون ﺃن يشعر كيف وصل سريعا ﺇلى هذه المرحلة، ﺃلم يكن يرى ﺃنها بعيدة عنه وﺃنه لم يزل في خطواته اﻷولى سعيدا بوظيفته وﺃن ما يفصل بينها وبينه هو ما يفصل الناظر من ﺃسفل مسافة ﺇلى قمة جبل شاهق، لكن الزمن عبر بسرعة هي أشد من لمحة البرق ولم يمهله ﺃن ينظر ﺇلى نفسه ﺃو يتأمل تلك اللحظة فيهزئ من بعدها منه ﺃو يتمنى قربها لطول ما سينتظرها، لقد ﺃمسكه الزمن متلبسا كما يمسك رجل اﻷمن لصا مثبتا بجريمته.
وعطف برﺃسه على الجوانب كافة في ﺃرجاء الحجرة ليجدها تغرق في سكون طويل لا يقطعه شيء وكأن كل ما حوله ينشد السكون ولا يمل منه، على الطاولة تتبعثر مجموعة من المجلات والكتب فوق بعضها بغير انتظام وبجانبها فنجان القهوة الذي يحتسي منه جرعات متمهلة.. نظر ﺇلى نفسه كأنما يدقق بصره ﺇلى جسده ﺃول مرة، الجسد الذي بدﺃ في تغيره الواضح وعليه بدت سمات سمنة على الساقين السائرتين ﺇلى التكوير، بضع شعيرات بيضاء تتناثر على الذراعين وعلى وجهه، ﺃحس كأنما دهونا اكتظت على وجنتيه كمن يلوك في فمه شيئا، وقوة عجيبة مغرية بالنوم والراحة تجذبه ﺇلى اﻷريكة ﺃو السرير ﺃو كرسي الحديقة الخشبي بطاقة مغناطيسية يطيعها دون تردد ﺃومقاومة، يحفظ مواقع اﻷشياء صغيرة وكبيرة في كل حجرة من البيت لطول قبوعه الطويل فيه ويقوده ﺃنفه ﺇلى المطبخ كلما تشمم رائحة الطبخ ويجذبه الليل ﺇلى النوم الدافئ الذي يرخي ﺃطرافه الراغبة في الجلوس والاسترخاء، لقد تغير رغما عنه وثبتت السنوات الطويلة بنفسه حب الاستلقاء والطعام والتلفاز والحاسوب، وﺇن استحكم جسده شيئا من القوة هب مستجيبا لنداء الحماس الطارئ فوجد نفسه ينزل ﺇلى القهوة القريبة من البيت فيجلس على ﺃول كرسي يقابله ويطيل الكلام ويحتسي فنجانه على مهل، وسأل نفسه كمن يخاطب شخصا يجلس قبالته..
تغيرت، نعم تغيرت.. فعلا، كيف حصل معي هذا التغير المفاجئ وانقلبت حياتي، كيف انتفخ الجسد الرشيق وانقلب إلى جسد عاجز يدور بين جنبات البيت ويتصرف بآلية عقل مغيب يحفظ تصرفاته اليومية ويعاني فراغا هائلا، هل صرت ﺃحب السكون وﺃنتظر سعادة مرور الساعات وﺃتفرج عليها وهي تمرﱡ ويسيل الزمن الذي كنت ﺃحسبه بالثواني من ﺃصابعي كما يسيل الماء متقاطرا على اﻷرض..وركبته نشوة عابرة اهتزعلى ﺇثرها الجسد الممتلئ وكأنه يصحو من كابوس طويل على شعاع شمس الصباح الضارب على وجهه من ضلفة الشباك المفتوح، فنهض بجهد ملحوظ ودخل حجرته وﺃغلق من ورائه الباب، ارتدى بدلته الزرقاء وﺃحكم قفل ياقة قميصه الأبيض وربطة عنقه المخططة التي ﺃحب ارتدائها منذ زمن قديم وظهر بصورته المهندمة القديمة التي توقظ بداخله الرجل النشيط بأناقته ومحفظته الجلدية بلونها البني التي تضفي عليه سمة الجدية والعمل الصارم.
فتح الحاسوب لدقائق ملقيا نظرة تفقدية ثم اتجه ﺇلى مكتبه الذي لم يلمس شيئا من ﺃوراقه منذ سنوات، ﺃخرج ملفات مكدسة فوق بعضها وعبر ﺇليها ببصره باقتضاب وهو ينفضها على حافة المكتب يزيح عليها غبارا عالقا، وارتفع واقفا ﺇلى ﺃدراج المكتبة المكتظ على رفوفها كتب علمية وفيزيائية وفي الدولاب يضع كما هائلا من الجرائد اليومية التي قرﺃها منذ ﺃعوام خلت محافظا على عادته المتميزة وهوايته في ﺃن يخبئ كل جريدة صباحية يقرﺃها، حتى بات يمتلك عددا غير محسوب من الجرائد التي لا يرميها ولا يتخلص منها مهما طلبت زوجته ذلك متذمرة منه.
وانسحب من الحجرة دون ﺃن يجد ما يفعله، وفي الردهة نظر ﺇلى الساعة الجدارية ليجدها تشير ﺇلى العاشرة والنصف ومضى يقترب من باب البيت لتترامى ﺇلى ﺃذنه ﺃصوات نابعة من الخارج تتحدث بحرارة تحفل بجو الحياة الضاجة بالحركة والكلام بعيدا عن هذا السكون الذي يلفه من الداخل، غمره شيء من الرغبة في مشي طويل وﺃن يختفي مما يحاصره، الانتظار والضجر والكسل والنوم، ﺃجل يتمشى ويطلق ساقيه للحركة والانطلاق وﺇن كان بلا شغل ولا وظيفة يسير ﺇليها بوقت معلوم دون تأخير فلا يدري ﺇلى ﺃين يمضي، المهمﱡ ﺃن يهرب من نفسه من حرب فراغه الذي بات يصفر بداخله رياحا ﺃشبه برياح شتوية ينفخها الشتاء في بيت مفتوح، ليس اﻷمر جديدا عليه، ﺇنه يخاف الفراغ منذ اللحظة التي كان فيها بعيدا منه، في غمرة الشغل والشباب والحماس فكيف ﺇذا وجد نفسه يسير في حلقة دائرية تؤدي به ﺇلى نفس النقطة التي انطلق منها فلا مخرج له ولا منقذ منها، ﺇنه الخوف، الخوف من الماضي والخوف من الحاضر والخوف من المستقبل القادم والخوف من الترقب والانتظار فكيف ينجو من عاطفة الخوف التي تطارده وينقذ نفسه من معاركه النفسية التي يخوضها في سره المغلق فلا ﺃحد من ﺃسرته يعلم عنها شيئا ويظنون ﺃنه رجل وجد غايته في سعادة ظفر بها في الراحة التي ﺃزاحته عن العمل.
خرج وتوارى خلف الباب وانطلق بخطوات وئيدة حتى انتبه سمعه لأصوات القاعدين على المقاهي بأحاديثهم التى تشترك لتصنع همهمة كالفوضى لا يفهم منها شيء وهي تتطاير في الهواء، ولوحت له من بعيد يد صديق تعرف عليه حديثا في المقهى ونادى بصوت يدعوه للانضمام فحياه بابتسامة وبتحية مقتضبة معتذرا بالانشغال رغم رغبته التي ﺃلفت ذلك الجمع وهرج الحوارات التي تتجاذب بسرعة زمنية تسرق الساعات الطوال دون شعور على رغم ما بها من تسلية وﺃنس وكأنه يمد من وقته ﺇلى الفراغ بقلب طائع ونفس راضية، واستنشق من الهواء البارد بنفس طويل يستشعر رطوبة النسائم المنعشة التي جددت ﺃنفاسه، ويتأمل بصره كل شيء حوله في الشوارع، وجوه العابرين وواجهات المحلات وسيارات الطريق السريع التي تمرﱡ ﺃمامه ولمح محلا على عتبته التي تصطف بها ﺃنواع كثيرة من المجلات والجرائد المعنونة في ظاهرها بعناوين جذابة فانعطف ﺇليه يتناول جريدة الصباح بوجه عليه ابتسامة هادئة وبنظرعابرة قرأ العناوين اﻷولى في صفحة المقدمة بسرعة ثم استبطها على يمينه.
ثقل عجيب يطرﺃ على قدميه يجعله يضغط بقوة من جسده كي يثبت خطواته وكأنه لم يعتد ذلك ﺃو ﺃنه بصدد تعلم المشي، هو نفسه طريقه الذي كان يشقه قبل سنوات وهو ماض ﺇلى العمل، لكن كثرة الجلوس ﺃكسبته خمولا زائدا سيتخلص منه بقليل من اﻹرادة وعما قليل سيتبدد كل هذا القلق والضجر الحائم حولي وتنزاح هذه التساؤلات من ذهني والحيرة التي تغلف على مخيلتي، مرحلة كهذه لن تثني الذهن المتحفز الذي يحوي ذكاء متقدا وفطنة فريدة في عالم الفيزياء، في هذه اللحظة بالذات ﺃشعر ﺃني قادرعلى ﺃن ﺃشغل عقلي وﺃحل مسائل معقدة ومعادلات مهما كانت صعوبتها، ﺃلم ﺃكن باﻷمس ﺃنغمس في غمرة القراءة والمعادلات الفيزيائية خارج حدود الزمان والمكان..
وعلى طاولة الغداء اجتمع بأسرته على كرسيه وعلى المقابل مباشرة تجلس زوجته وعلى الجانبين ولديه، يضع كل واحد بصره صوب صحنه ويتناولون غدائهم بطمأنينة وهدوء، نظرت ﺇليه زوجته وهي تلحظ عليه معالم من التغير الذي لم يخفى على ﺃي ﺃحد منهم، قالت تخاطبه:
يبدوعليك شيء من التغير اليوم.
وتطلع ﺇليها بنظرة من كان ينتظر تساؤل المهتم لحاله وقد جاء في وقته:
نوعا ما، شيء كهذا، حقيقة كان صباح اليوم مختلفا فقد جلت طويلا في شوارع لم ﺃسر فيها منذ مدة طويلة.
هذا جيد حقا، المشي خير من الجلوس الطويل.
وﺃردفت:
ﺃلم ﺃخبرك قبل هذا ﺃن تتعود على فعل ﺃي شيء عدا المكوث بالبيت دون فعل شيء يذكر
وﺃجابها:
تماما، الجلوس والراحة هي من ﺃرهقتني، ﺃخشى ﺃن ﺃشكو ﺃلم المفاصل قريبا لطول النوم الذي ﺃنامه.
معك حق، ﺃشغل نفسك بأي عمل يروح عن النفس، ثم ﺇن تقاعدك لا يعني ﺃن تبتعد عن الحياة وتستبدلها بالكسل والملل الذي يتسلل ﺇليك من الفراغ.
وانسرب ﺇلى نفسه شيء من التحفز ليقول لها:
ﺇني ﺃفكر في برنامج ﺃخصصه لممارسة الرياضة وقراءة الكتب والتقليل من الطعام.
فكرة طيبة حقا.
ﺃجل، ما زال بداخلي عزيمة قوية لفعل كل ذلك.
وانهمك يتناول صحنه بتمهل كبير وهو يرقب ﺃثر كلامه على الوجوه الثلاثة بنصف عين منتبهة ليلحظ مدى انشغالهم بمخططه الطارئ الذي لا بد هو يهمهم جميعا وقد لفت انتباههم ﺇليه، لا يود ﺃن يكون جسدا متكتلا ينطرح معظم وقته على اﻷريكة وسط الحجرة يلقي في جوفه فناجين من القهوة والشاي دون حسبان ويداوم تلك النظرة الساهمة التي تتأمل الجدران، الترقب والانتظار للمجهول من اﻷيام القادمة هو محاولة للوقوع في فخ كبير، والذي يقضي على كل رغبة في فعل شيء ذا بال، وكأن لا شيء يربطه بهذه الحياة وهولا يريد ﺃن يلمح ﺃي نظرة مخجلة تنال منه ﺃو تنقص من قيمته في عين زوجته ﺃوﺃحد من ولديه، هو من سيصنع الدور الذي يليق به وبعقله وما قدّمه في وظيفته السابقة، وبعد الغداء دخل حجرة ابنه الذي وجده منهمكا على مكتبه وسط كتبه وما بين يديه ينكب على الكتابة في الكراسة المفتوحة ﺃمامه، تطلع ﺇليه وهو يدنو من الكتاب المفتوح وراح يعمل معه على حل ما صعب عليه من التمارين الفيزيائية ويقوم بشروحات لكل ما لم يستطع استيعابه وقد وجد في ذلك ضالته وخصص له من اليوم ساعة للمذاكرة جعله يستوعب الكثير في الفيزياء وﺃضاف هذه الساعة ﺇلى مخطط برنامجه الذي ينتظر التنفيذ، وﺃشد ما تحمس له هو تلك اللحظات التي يقبل فيها ابنه بكتابه وقلمه فيدخلان معا معترك عالمه المحبب الذي جعله يشعر بأنه يزاول مهنته القديمة بالشغف والحماسة ذاتها دون أن يتغير منه شيء.
اترك تعليقاً