عبث
١-
يتملكني إحساس غريب عجيب منذ مدة ليست بالقصيرة لا أستطيع تصنيفه تحت أي مسمى. هل هو حب ؟؟ أم إعجاب؟ أم انبهار ؟ أم ماذا؟؟؟؟
تُراني لم أسهر الليل ، و يجافيني النعاس ، و يستعصي هبوط النوم على جفوني ؟ أفكر بها أوقاتاً طويلة ، و يشغلني أمرها كثيراً و لكن لماذا؟ أتابع أخبارها و صورها و أحاديثها بكل إخلاص و اهتمام كطالب نجيب في حضرة معلمته الجليلة. هي لم تبدِ أية إشارة أو تلميح، و أخفقت تماماً في شد انتباها إليَّ؛ فالأمر برمته بدأ من ناحيتي فقط. إذاً لم كل تلك الحيرة التي تسكن قلبي؟ لم أتوتر حين يذكر اسمها و أغتبط حين أرى صورتها و أبتسم بسعادة حين يمر طيفها ببالي؟ أنا و هى من رابع المستحيلات أن تجمعنا أية علاقة ليس الآن و لا في المستقبل فهى من عالم و أنا من عالم آخر كقطبي الكرة الأرضية هى صوب الشمالِ و أنا صوب الجنوب . هى جذوة نارٍ هادئة أوقدت بلا استئذان أسفل قِدرٍ موضوعٍ به فؤادي لينضج على مهلٍ و ينضح بما فيه . آهٍ و آهٍ منك يا قلبي، حالك يدهشني و يصيبني بالارتباك. ما الذي تريده و ما الذي تفعله؟ أنهكتني و أنهكت نفسك و صارت دقاتك تعلو و تعلو وتتسارع و لا تهدأ على الدوام من لحظة التقائي بها و ياليتني لم أفعل . لقد اعتدتَ يا قلبي النوم و الكسل و كنت دوماً موصَدَ الأبواب صَدِأَ الأقفال مُحْكِمَها ، لم تؤمن يوماً بفكرة التِّيم و الوََله ، و الآن تكاد تنخلع من مستقرك بمنتصف صدري كلما داعب ذكرها دواخلك . يالمصيبتي التي حلت على رأسي و كيف لى الخلاص ؟؟ لو كان ذلك حباً فهو محرمٌ عليَّ و ما جدواه؟ و إن لم يكن حباً فما هو ؟ صراع مُحْتَدٌّ بداخلي بسبب ذلك الشعور المبهم و تلك الحالة الغامضة التي ابتُلِيتُ بها . أتساءل هل تُراها تشعر بي أم أنها تنعم بحياتها و منشغلة بها، و لا تشعر بوجودي بل و لا تفكر بي و لو قدر مثقال ذَرَّة ؟
سألجأ لربي وحده قادر على شفائي لعلي بالنهاية لا أكون سوى مريضٌٍ بمرضٍ عِضال لا يستطيع شفاءه سوى الرحيم الشافي؛ فالقلوب تمرض بالعشق كما تمرض بمختلف الأسقام الأخرى لكني أظن أنه الأشد و الأصعب.
٢
هو شاب في الثلث الأخير من العشرينيات أقل ما يقال عنه أنه كامل الأوصاف. طويل القامة منبسط القد مفتول العضلات ، وجهه وضَّاء مائل لسمرةٍ برونزية شديدة الجاذبية كنجوم هوليود أضاف عليها سحر عينيه العسليتين المتقدٌ بريقهما على الدوام، أنفه دقيق حاد تعلو شفاهاً مرسومة ببراعة بريشة الخالق المبدع تخفي خلفها صفين من لؤلؤ منثور على هيئة أسنان. يغطي رأسه شعر كثيف ناعم فاحم السواد ورثه عن والدته التي توفيت أثناء ولادته. ذو قلب حنون بالغ الطيبة و النقاء، طموح عاقد العزم على النجاح و التقدم في مجاله الذي يعشقه منذ الطفولة فقد كان بطلاً في رفع الأثقال. عاش مع والده منذ الولادة في دولة الإمارات و تحديداً في مدينة الشارقة. عمل والده مدرساً للتربية الرياضية بمدرسة أمريكية هناك ، و من هنا بدأ هو مشواره الرياضي و بدأت موهبته تظهر بوضوح متفوقاً بسهولة على جميع أقرانه. لاحظ مشرف قسم الرياضة بالمدرسة و كان أمريكي الجنسية موهبته الفذة و بنيته القوية، و لمس داخله طموحاً و عزما قويين للفوز متشبعين شغفاً و حباً خالصا للرياضة. استأذن المشرف إدارة المدرسة لتمويل تدريبه و المنافسة باسم المدرسة في المحافل الرياضية المختلفة. بدأ يبرع بالفنون القتالية و أتقنها بالرغم من صغر سنه ، و حصد من البطولات العديد بدولة الإمارات و مصر و إفريقيا في وقت يسير. انتقل بعدها إلى القاهرة مع والده حين أكمل ١٨ عاماً و بعد أن أتم امتحان الثانوية هناك. ذاع خبر رجوعه إلى المحروسة ولم يلبث أن انهالت عليه عروض العمل و الاحتراف داخل و خارج مصر لكن والده أصر على أن يلتحق بكلية التربية الرياضية بمصر حتى يشعره ابنه بدفء العائلة و لكي لا يتجرع كأس الغربة كما فعل هو . آثر والده أن يمضي ما تبقى من حصيلة أيامه بجانب أحبائه ، و ليموت و يُدفَن بأرض الوطن . أثناء دراسته فضل أن يطور نفسه بعض الشيء و أحب تجربة رفع الأثقال بالرغم من رفض والده القاطع لذلك ، لكنه أحس بميل كبير تجاهها . بالفعل نفذ رغبته و صار يتمرن مع مدرب خاص و استطاع إتقان الكثير من أساسيات رياضته الجديدة و ذلك بالتوازي مع دراسته بالكلية . تخرج من الكلية بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف و انطلق كالفرس الجامح يحصد من البطولات المحلية الكثير و من الدولية القليل قبل أن يفكر في بدء عمل خاص به. استطاع خلال عامٍ و نصف ، و بمساعدة مالية من والده و بعض الخدمات و التسهيلات الجمركية و البنكية من أقارب لبعض أصدقائه، أن يؤسس صالة على أحدث طراز لكمال الأجسام و رفع الأثقال. تضم الصالة أحدث الاجهزة الرياضية المختلفة، مع صالة جانبية ملحقة بها لممارسة رياضة الإيروبكس . لم يبخل بشئ لكي تظهر الصالة بمظهر جذاب و لائق أمام مرتاديها ،و تابع كافة أعمال البناء و التشطيبات و التركيبات لكنه أحس أن المكان ينقصه لمسة فنية فاستعان بصديق والده القديم مهندس الديكور المخضرم فقابل الرجل الموضوع بترحاب بالغ لكنه اعتذر لتعذر حركته بسبب مرض الروماتيزم و وعده أن يرسل ابنته الكبرى مهندسة الديكور المشهورة ذات الصيت و السمعة البارزتين بدلاً منه لتساعده فيما يحتاج. طمأنه الصديق القديم أن ابنته لن تأخذ منه مليماً واحداً فأبوه يعتبر أخاً له وليس مجرد صديق. و كانت المقابلة الأولى التي ترتبت بلا ترتيبات فلا وجود للصدف في الحياة بل هو توفيق و تدبير من القدير لحكمة منه لا يعلمها سواه لما سيحدث بعد ذلك.
٣
تهادت هي بخطواتها الواثقة برقة و خفة فقدماها لا يطئان سطح الأرض لكنهما يقبلانه بهدوء و نعومة. انبثق عبيرها الفواح يطلق نسائم النشوة و الخدر في قلبي و عقلى حتى صرت مغيباً كلياً و توقف بي الزمن لوهلة. توجهت نحوي تطلق سهاماً حانية من عينيها الرماديتين مباشرة نحو صدري . غمرتني رموشها السوداء الكثيفة كموجة تسونامي حيث ذابت دواخلي بأكملها في بحرهما . تسمرت بمكاني و خانتني قدماي لأول مرة و أنا بطل رفع الأثقال الصاعد الواعد . سلَّمت عليَّ بكفها الرقيق الغض فسَرَتْ بجسدي قشعريرة خفيفة و تقطرت بجبهتي بضع قطراتِ عرقٍ ساخنٍ مُلْهِبٍ كحرارة قلبي. أخذت تتحدث و تتحدث بشفتيها الوردية الرفيعة مُعَرِفةً بنفسها و لم يكن ذلك ما يشغلني فأيًا كان الاسم فهو لا يعنيني، ما يعنيني هو تلك الروح الملائكية الطاغية و تلك الهالة من النور التي تحيط بها أينما تذهب. كل ما يخصها عجيب فكيف لامرأة أن تحمل كل ذلك القدر من الجمال و الشهرة و النجاح العملي و الأسري ؟ كيف تكون تخطت الثالثة و الأربعين بشهور في حين أراها أمامي فتاة مراهقة بالكاد أنهت الثانوية العامة؟؟؟ لا جسدها الممشوق المكتنز قليلا يوحي بذلك ،ولا وجهها البريء أيضاً، فكيف تكون أماً لثلاثة أبناء أكبرهم في عامه الجامعي الأول؟ كيف اجتمعت تلك الصفات المثيرة الآسرة و تلك الروح النقية المرحة في ذلك الجسد الرشيق الجذاب؟ حقاً إن لله في خلقه شؤون.
أقبلت مهندسة الديكور المشهورة إلى داخل الصالة ترتدي فستاناً كحلياً متناثر عليه وردات حمراء داكنة صغيرة يضيق عند الوسط بحزام جلدي أبيض ، و حجاباً وردياً أنيقاً للغاية. توقفت خطواتها حين رأته و هو منهمكٌ مع بعض العمال و الحديث محتدٌ بينهما. تعالى صوته الجهوري الأجش و هو يفرغ جام غضبه عليه لأنه اكتشف سرقته لبعض الأدوات الصحية الباهظة الثمن. ظل العامل يبكي كالنساء و يحاول الاعتذار من سيده ، و يقبل يده بل و قدميه لكنه رفض و نهره بشدة و طرده خارج المكان. و عندما أشاح بذراعه مشيراً إليه ليخرج في اتجاه المدخل الرئيسي للصالة فوجيء بها متسمرة في مكانها تتابعه بتوجس و ريبة و استغراب. ناله ما نال مما ماج بداخله حين رؤيتها ثم تراخت ملامح وجهه المحتقن حين لامس أنفه عطرها الأنثوي الطاغي . نظر إلى ملابسه و حاول أن يهندمها بعض الشيء ثم توجه ناحيتها. ألقى عليها التحية بهدوء بالغ و اعتذر عن حدته و غضبه سابقاً لكنها ابتسمت متفهمةً و أخبرته أن تلك ضريبة التعامل مع طبقة العمال فهى للأسف من أسوأ من قد تتعامل معهم في الحياة، و أخبرته أنها تعرف شعوره تماماً بحكم عملها.
لم يستطع هو رفع ناظريه عن عينيها و شفتيها بل عنها إجمالاً. بشرتها البيضاء الشمعية الناعمة كانت تلح عليه أن يلمسها لكنه تحاشى ذلك بأعجوبة. كان يسير معها في أنحاء الصالة بلا عقل و قلبه كطير صغير لم يتعلم الطيران بعد و كلما حاول يخونه جناحاه و يسقط بوسط العش. بعد أن أخذت فكرة جيدة ًعن المكان توجها للجلوس عند مكتب جانبي مؤقت لتعرض عليه ما جال بخاطرها من أفكار لكنها استأذنته لتستخدم دورة المياه لتهندم حجابها. ذهبت و ذهب وراءها بعينيه و قلبه محتارٌ في كل شيء بها. محتار في جمالها، رقتها، خفة ظلها و روحها، أناقة ملابسها و كلامها، جمال جسدها و خلقها و أخذ يتساءل كيف لإنسانةٍ أن تحمل كل ذلك القدر من الروعة؟ ما سر تلك العينين اللتين ذاب فيهما و هام على وجهه ؟ و ما سر مسحة الحزن الواضحة التي تطل منهما؟
عادت و جلست على الكرسي الملاصق له فشعر بحرارة قوية تلف جسده و تسري به من رأسه حتى أخمص قدميه كتيار كهربي عالي الجهد و أخذ قلبه يخفق بسرعة مخيفة. تحامل على نفسه و استأذنها ليدلف هو بدوره إلى دورة المياه لكنها حجة كي يبتعد و يتمالك أعصابه بعض الشيء. انزوى إلى ركن بعيد يلتقط أنفاسه اللاهثة و يؤنب نفسه مستنكراً و متعجباً لما يشعر به و تلك الحالة الغريبة التي تنتابه. استعاد جزءاً يسيراً من رباطة جأشه ثم عاد إليها. باعد بين كرسيهما و دار بينهما حوار مفصل عما تراءى لها من أفكار و لمسات فنية ستضيف للمكان جاذبية و أناقة. طال حديثهما لساعتين و يبدو أن كليهما لم يشعر بمرور الدقائق خاصة هو لكن في النهاية استأذنته لتغادر فلديها أكواماً من الأعمال و المهام المتراكمة. تبادلا أرقام الهواتف و سلمت عليه باستعجال ثم غادرت و غادر معها فؤاده. ظل يستغرب لحاله و يتساءل مجدداً ما هذا العبث ؟ ما الذي أصابه و ماهية شعوره الغريب و ما حدث بكيمياء جسده عند لقائها؟ يبدو أنه مُقبل على فصل جديدة مختلف عليه كلياً لم يكن في الحسبان
٤
اعتدل الطبيب النفسي المشهور في جلسته بتوتر و هو يتم كتابة تقرير طبي عن حالة ذلك الشاب الرياضي الذي يعالجه منذ شهور. كتب و بكل أسى و استفاض في الشرح؛ فحالته كانت تحدياً قوياً فشل فيه فشلاً مروعاً و كارثياً ، و التقرير الذي سيكتبه الآن و الذي سيسلمه لوالده بصورة ودية و ليست رسميةً، هو بمثابة وصمة عار في تاريخه الحافل بالنجاحات.
“بعد مرور ثمانية أشهر من العلاج أكتب إليك سيدي ما يمليه عليَّ ضميري المهني فيما يخص حالة ابنكم بطل رفع الأثقال. أعترف بكل خجل أنني فشلت تماماً في علاجه و نفدت مني كل الحيل ، و انفرطت مني الحلول، و عجزتُ تماماً عن حتى الاقتراب من الشفاء. لقد استمعت بكل آذانٍ صاغية لما حدثني عنه، و دونت كل كلمة بل و كل حرف أخبرني إياه بداية من طفولته، و انتهاءً بعلاقته بتلك السيدة التي أحبها و أُغرِمَ بها قبل عام تقريباً. لقد عاني ابنكم في بداية الأمر من صدمة نفسية عصبية حادة نتيجة وفاة تلك السيدة التي تعلق بها بشدة، و استفاض في الحديث عنها، و التي أحبها حباً قوياً لكنه كما نسميه في الطب (حباً وهمياً ) أو باللغة الدارجة ( حبٌ من طرف واحد)، كان له الأثر البالغ على عقله. حاولتُ إقناعه أن كل ما شعر به تجاهها هو العبثُ بعينه و ليس له أساسٌ من الواقع، لكنه كان في حالة إنكار بالغة الشدة. اكتشفتُ أيضاً صراعه الدائم من عقدة جلد الذات طوال حياته؛ لاعتقاده أن كل من أحب من النساء يختطفهنَّ الموت بداية من والدته. يقينه أن قلبه ملعون ، و حبه للنساء منحوس و مشؤوم، جعله يعزف عنهن طوال حياته، لكنه لم يستطع منع قلبه عن حب تلك الملاك التي أسهب في وصفها، و وصف حالته الذهنية و الجسدية لحظة رؤيتها و التحدث إليها. كل ذلك للأسف تطور إلى حالة قوية من الذهان ، حيث استطاع و ببراعة شديدة و مرعبة بناء واقع بديل متكامل الأركان و المعالم عاش فيه معها، تاركاً عالمه الحقيقي، رافضاً لكل ما يمت إليه بِصِلَة. أقر أنني وقفتٌ عاجزاُ بلا حيلة أمام حالته المستعصية فعقله شديد الذكاء و التعقيد في نفس الوقت . أستمحيك عذراً يا سيدي فلن أجازف بتاريخي المهني من أجل ابنكم، لذلك اكتفيت بشرح حالته باختصار في تلك السطور. أرجو منكم تفهم موقفي و سأقوم برد لك كل ما تم دفعه من مبالغ مالية على مدار الجلسات، و تفضلوا بقبول فائق الاحترام”
جلس الأب المكلوم يبكي و ينتحب و هو جالس يقرأ تلك السطور الدامية عن حالة ابنه المسكين. ابنه الذي كان كالخيل العربي الأصيل مملوء بالحياة و الطموح. ها هو ممدد أمامه على الأريكة المفضلة لديه يعبث بهاتفه المحمول، مخاطباً نفسه بكلمات مبهمة لا يميز منها سوى اسم تلك الفاتنة البائسة التي وافتها المنية منذ أكثر من شهرين هي و أسرتها في حادث مروع. لم يتحمل المسكين ما قرأ فهاجمته وخزات و نغزات في أعلى صدره و آلام مبرحة انتشرت في جسده كتيار كهربي عالي الجهد. تصبب العرق البارد الغزير من جبهته، و تهدج نفسه و تقطع، و حاول باستماتة أن يقاوم اختناقاً هاجم رئتيه لكن بلا جدوى. لم يمهله القدر كثيراً حتى زاغت عينه و ابيضت، و خرج زبدٌ أبيض من شدقيه، و ارتج جسده بعنف حتى فارق الحياة. دُفن المسكين في مقابر عائلته التي حلم بأن يعيش في كنفها. هو معهم بالفعل لكن كجثة هامدة، أما بطلنا فقد تم إيداعه بإحدى المصحات النفسية الرديئة ، و صار يُعاملُ معاملة المجانين أو المجذوبين.
اترك تعليقاً