كُودية زار

كُودية زار

مكَنش بإيدي إني أختار الطريق دَه، كل حاجة كانت بغير إرادتي، كِبرت لقيت نفسي في ملجأ، مَعرفش أنا بنت مين، ولا أعرف أنا منين، ولا إيه الظروف اللي خلَّتني آجي على وِش الدُّنيا، مُش عاوزة أحكي عن قسوة العيشة في الملجأ، كفاية بَس قسوة إنك متكونش عارف أنت مين، ولا حتى اسمي اللي هو “فاطمة” مَعرفش إن كان ده الحقيقي ولا هُمّا اللي سمّوني كِدَه في الملجأ، بَس الحياة بتمشي حتى لو هتكون شويّة أيام بنعدّيها وخلاص، لِحَد ما كِبرت وبقى عندي 12 سنة، بدأت أوعى على الدنيا، وبدأت أندمج مع كام بِنت من اللي معايا وكانوا في نَفس سِنّي، بَس في الوقت دَه كُنّا بنتعرّض لسخافات من بعض المشرفين في الملجأ، الرّجالة طبعًا، يعني زي احلوّيتي، بقيتي عروسة خلاص، لِدرجة إنّي كرِهت الملجأ، لكن مكَنش في مكان تاني أروحه، كُنت عايشة وبحاول على قَد ما أقدر أحافظ على نفسي، لِحد ما في يوم، مُشرفة من المُشرفات جَت عندنا الأوضة ونَدهت عليّا، وطلبت منّي أروح معاها مكتب المديرة.
كانت أول مرة تحصل إنها تطلُبني، مَشيت جنب المشرفة لحد ما وصلنا المَكتب، وهناك لقيت واحدة سِت بشوفها لأول مرَّة، أوّل ما شوفتها حسّيت جسمي بيرتِعش، لونها أسود وحجمها ضخم، ورغم إننا مُش بنشوف تليفزيون كتير، بَس حسّيت إنّها شبه السّتات اللي بتعمل أدوار الشَّر في الأفلام، وقفت مخضوضة من شكلها، لكن لقيتها بتضحكلي وبتمدّلي إيدها، زي ما تكون عايزة تطمّني، وقفت في مكاني وكُنت خايفة أقرَّب ناحيتها، بَس اتفاجأت بمديرة الملجأ بتقولّي:
-متخافيش يا “فاطمة”، السِّت “عدلات” هتاخدك تعيشي معاها.
كان نفسي ييجي اليوم اللي أسيب فيه الملجأ، بَس اللي كُنت بتمنّاه إن حد يتبنّاني زي ما حصل مع كام بنت هنا، لكن كانوا أصغر منّي بكتير، ومع الوقت فهمت إنّي كبِرت على التَّبني، ولازِم هييجي الوقت اللي هَسيب فيه الملجأ أوّل ما أقدر أعتمِد على نفسي، دا غير إنّي معنديش رفاهية إني أرفُض أو أقرَّر حاجة في مصيري، ماهو لو كان ليّا اختيار، كُنت اخترت من الأول إني مَجيش الدُّنيا دي.
قرَّبت من السِّت اللي حاولت تطمّني على قد ما تقدر، ولمّا وقفت قدّامها طَبطبت على كِتفي وقالتلي:
-من دلوقت تقدري تقوليلي يا ماما “عدلات”.
صوتها كان غليظ شويّة، خلَّاني أحِس بالخوف، وكانت أصعب لحظات مرَّت عليّا لمّا سمِعت مديرة الملجأ بتقولّها:
-طالما خلاص هتاخدي “فاطمة” يبقى لازم تمضيلنا على الإقرار دَه.
أنا بعرف أقرأ وأكتب على قدّي؛ فَمكنش صعب عليّا إني ألمح صورتي اللي متدبّسة في الإقرار، وأفهم إن ده تعهّد الملجأ بياخده عليها عشان هَتستلمني، بعدها المديرة سلّمت عليّا وقالتلي كلمتين، فيما معناهم يعني إنّها بتتمنّالي التوفيق في حياتي الجديدة، وبعدها خرجنا من مكتبها، كانت واحدة من المشرفات مجهّزالي شنطتي، عشان نمشي من الملجأ، بَس أنا طلبت منهم أودَّع صحباتي اللي عيشت معاهم السنين اللي فاتت، عطوني فرصة خمس دقايق، ولمّا ودّعتهم أخدتني في إيدها وخرجنا.
قدّام بوابة الملجأ، كانت في عربية واقفة، معرفش نوعها لكن لونها أسود وشكلها حلو جدًا، كان فيها سوّاق، اللي أوّل ما شافنا نزل أخد الشنطة منّي وفتح الباب عشان نركب.
أنا مركبتش في حياتي غير عربية الإسعاف، لأني لمّا تعبت في مرَّة طلبوها عشان تودّيني المستشفى، غير كِدَه كانت حياتنا كلّها في الملجأ، بنبُص على الدُّنيا من الشبابيك ومن بين حديد البوّابة، عشان كِدَه وأنا في العربية كُنت بملا عيني من الدُّنيا، الطريق كان طويل، لكن في النهاية العربية وقفت قدّام بيت كبير، شوفت زيّه مرَّة في فيلم وكان بيتقال عليه فيلا، نزِلنا من العربية وأخدتني معاها جوّه، البيت كان جميل جدًا، وأنا كُنت مبسوطة إني خلِصت من العيشة في الملجأ وإني هَكون موجودة في بيت يعوّضني قسوة الحياة اللي فاتت، وبقيت مَبسوطة أكتر؛ لمّا أخدتني لأوضة لها شبّاك وبلكونة كبيرة على الجنينة وقالتلي إن دي أوضتي، كان فيها ألعاب وحاجات من اللي شوفتها مرَّة في الأفلام.
مع الوقت بدأت أتعوِّد على الحياة في الفيلا، لكن كُنت بستغرب لمّا بتيجي أيام وكانت بتطلب منّي أقعد في أوضتي ومَخرُجش منها غير لمّا تقولّي، وِدَه مكَنش بيحصل غير بالليل، كُنت بَسمع صوت طَبل طالع من تَحت، مكَنش فيه موسيقى، كان يادوب صوت حَد بيخبط على طبلة أو دُف، بَس كُنت بسمع معاه صوت صريخ، ستّات بتصرّخ، وأحيانًا بسمعهم بيغنّوا أغاني مُش مفهومة، أو يمكن أنا اللي مُش فهماها، لِحد اليوم اللي جمّدت قلبي وقرَّرت أسألها وإحنا قاعدين بناكل، وقولتلها:
-هو إيه الصوت اللي بسمعه لمّا بتخلّيني أقعد في أوضتي ومخرُجش منها؟
كانت بتبُصّلي وهي بتاكل وقالتلي:
-مَتستعجليش يا “فاطمة”، أوانِك قرَّب وهَتبقي من العرايس.
هي مقالِتش غير كِدَه، وأنا مكُنتش فاهمة يعني إيه هبقى من العرايس، لكن في ليلة كُنت قاعدة في أوضتي، ولقيتها بتخبَّط عليّا وبتفتح الباب، وساعتها كان معاها اتنين ستّات، لمّا شوفتهم معاها حسّيت بالخوف، وقفِت تبُصّلي شويّة ولقيتها بتطلب منّي أنزِل معاها تَحت، ولمّا نزِلت لقيت في اتنين كمان قاعدين، كان في إيده واحدة منهم طبلة والتانية دُف، وكان في حاجة نحاس كبيرة زي الإبريق، كانت على الأرض مابين كراسي الصالون، كان طالع منها دخان ريحته حلوة، لكنه كان يُخنق لأنه كتير، أنا كُنت واقفة مُش فاهمة إيه اللي شيفاه دَه، لكن مَفيش حد فيهم عَطاني فرصة أسأل في أي حاجة، أنا اتفاجأت بـ “عدلات” بتلبّسني عباية لونها أبيض، كلها رسوم، وعلى ضهرها زخارف ومرسوم فيها جَمَل وواحد ماشي جَنبه، وبتحُط على كِتفي كوفيّة حرير لونها أبيض، ومنقوش فيها زهور لونها دَهبي، وأوّل ما لبّستني كل دَه، لقيت الاتنين اللي معاهم الطبلة والدُّف بدأوا يخبطوا عليهم، كان نَفس صوت الطبلة اللي بَسمعه وأنا في أوضتي فوق، في اللحظة دي، الاتنين اللي كانوا مع “عدلات” كانوا بيشيلوا حاجة خَشب مستطيلة وبيحطّوها فوق الإبريق النحاس، وبعدها بيغطّوها بملاية لونها أبيض، في اللحظة دي صوت الطَبل بدأ يِعلى، واتفاجأت بإيد “عدلات” وهي بتمسكني من وسطي، وبتزُقّني عشان أمشي قدّامها، كانت بتلِف بيّا حوالين الملاية البيضا اللي فوق المُستطيل الخَشب، لكن حسّيتها بتطوَّح وهي بتزُقّني قدّامها، وكان الاتنين السِّتّات ماشيين ورانا بيعملوا نفس حركة “عدلات”، مكُنتش فاهمة إيه اللي بيحصل، لكن فجأة صوت الطَبل بدأ يعلى أكتر، والاتنين اللي بيطبّلوا على الدُّف والطبلة بقوا ماشيين قدّامي، كلّهم بيطَّوحوا، بيغنّوا أغنية مُش فهماها، وأنا بقيت أتطوَّح زيّهم بطريقة لا إرادية.
ومع الوقت صوت الطَبل وَقف، وحركِتنا وقفِت، وبدأت أسمع صوت ديك، معرفش ظَهر إمتى ولا جِه منين، التفَتت ناحية “عدلات” ولقيتها مَسكاه في إيدها، أوّل مرة آخد بالي إنّي مُش لوحدي اللي لابسة عباية لونها أبيض، دا كلّهم كِدَه، مَعرفش إزّاي ملاحِظتش الحِكاية دي، بَس اللي لاحِظته دلوقت، إن “عدلات” لابسة فوق العباية سلاسل فيها أشكال غريبة، لكن مركّزتش معاهم لأن في حاجة تانية شدَّت انتباهي، لمّا لقيتها بتحاول تختار ريشة من ديل الديك، وبعد ما اختارت ريشة شدَّتها بكل قوِّتها، ساعتها الدّيك صَرخ، ومع الصرخة حسّيت إن قلبي اتهَز، وجِسمي اتهَز من الخوف أكتر لمّا لقيتها بتقرَّب الريشة منّي، وبترسِم على عبايتي رسومات غريبة، دواير ومربعات ومثلثات ونجوم، وهي بتقول كلام مقدِرتش أفهم منّه غير “سُلطان الجَبل”، برغم إني في الوقت ده مكُنتش عارفة مقصود بها إيه، لكن بعدَها صوت الطَبل بدأ يعلى أكتر، كان بيرُج البيت كله، وساعتها “عدلات” مسكتني من وسطي تاني وبدأت تخلّيني ألِف حوالين المستطيل الخشب اللي متغطّي بالملاية، وكلّهم كانوا ورايا بيتطوَّحوا، ولقيت نفسي من تاني بقلّدهم، شَعري اتنَكش ونِزِل على وشّي، والعَرق بقى مغرَّق هدومي، ومبقِتش عارفة إذا كان اللي بدأت أشوفه دَه حقيقي ولا تهيّؤات، أنا اتخايلت بحاجة لونها أسود بتتحرَّك جوَّه الملاية البيضا اللي فوق مستطيل الخَشب.
في اللحظة دي الدُّنيا بدأت تلِف بيّا، وبدأت أحِس إنّي بغيب عن الوعي، مُش إحساس الإغماء، بَس شعور إني بَنفِصل عن اللي حواليا، معُدتش حاسّة بأي إرهاق ولا هبوط، الشعور الوحيد بَس اللي كُنت حَسّيته، كان إحساسي بسائل سُخن نازِل على راسي ووشّي، كُنت بغمّض عيني عشان ميدخُلش فيها، ولمّا بدأت أستوعِب، عرِفت إن “عدلات” دَبحت الديك الأسود فوق راسي وخلَّته يصفّي دَمه كلّه عليّا!
كُنت بصرُخ بهيسيريا، الدَّم كان نازل على عيني، وكان مخلّيني شايفة كل حاجة حواليّا بلون أحمر، دا غير عبايتي اللي كأنّها على جثّة مقتولة، وقعت في الأرض لأن المَنظر كان أكبر من إني أتحمّله، وساعتها اتلمّوا حواليّا، وكانوا بيحطّوا كفوفهم في الدَّم، وبيبصموا بيها على العباية اللي لابساها، وعلى الملاية اللي مغطّيّة المستطيل الخشب، منظر الكفوف المطبوعة بالدم بالخَمس صوابع المفرودة كان مُرعب، الدنيا حواليا كانت مشوَّشة، لكنّي كُنت سامعة “عدلات”، كانت بتقول وهي لسّه بتطبع بكفِّها على جِسمي:
-اقبَلها يا “سُلطان الجَبل”.
وبعدها اختارت سلسلة من اللي في رقابتها، وشالِتها وحطَّتها في رقَبتي، وقالتلي حاجة لسّه فكراها لِحَد دلوقت:
-طول ما السلسلة دي في رقبتِك، وبتنفّذي طلباته وبتسعي ترضيه؛ هيفضَل راضي عنّك!
الحياة معايا من بعدها مَبقتش طبيعية، كانت كل ما تطلب منّي أقعد في أوضتي بالليل، وأسمع صوت الطبول والدفوف طالع من تحت، وخصوصًا دقّة الطبلة اللي كنت سمعاها لمّا لبِست العباية البيضا، بلاقيني في عالم تاني، بَسمع صوت رياح في جَبل، عَوي ديابَة، وحاجات كتير مُش عارفة إيه اللي بيخلّيني أحِس بِها، ومن بَعد اللي حَصل ولمّا آجي أنام، كُنت بَشوف نَفسي راكبة جَمل وماشية في صحرا، الوقت تقريبًا بيكون ما بين المغرب والعِشا، كنت بشوف قُدّامي جَبل، لكن الجَمل اللي كُنت فوقه كان مهما بيمشي مبيقرَّبش منّه، كان عامل زي السراب كل ما تقرَّبله يبعِد، ساعتها بكون في حالة زي الغيبوبة، وبكون سامعه صوت نَفس دَقّة الطبلة ايَّاها، لِحَد آخر مرَّة شوفت فيها الحِلم دَه، الجَبل مكَنش بيبعِد، وساعِتها وصِلت، وبمجرَّد ما بقيت قدَّام الجَبل، الجَمل اللي أنا فوقه نِزل على الأرض، ولقيت نَفسي بَنزل، وعيني بتبُص على الجَبل من فوق، وساعِتها شوفت واحِد واقِف قدَّام مغارة، كان لابِس أسوِد في أسوِد، حتى وِشّه كان باين من بعيد أسوِد ومفيش فيه تفاصيل، والغريبة إنّي لمّا بصّيت ورايا مَلقِتش الجَمل، ولا لقيت آثار رجليه وإحنا جايين، رجعت بصِّيت على الجَبل فوق، مَلقِتش الشَّخص اللي كُنت شيفاه، بعدها صحيت من النوم مفزوعة، واتفزَعت أكتر لمّا لقيت نَفسي بَصرخ من الألم اللي في بَطني، جريت من الأوضة وأنا بدوَّر على “عدلات”، كُنت حاسة في جِسمي بنفس الإحساس ودَم الديك نازل على وشّي، ولمّا قولتلها لقيتها فِرحت وبتقولّي:
-بقيتي كبيرة يا “فاطمة”.
لمّا فهّمتني لقيتني اطَّمّنت شويّة، لكن طلبت منّي أرتاح، وإن بعد أسبوع هَيكون في حاجات مطلوبة منّي، وساعِتها نفّذت اللي طلبِته، ماهو أنا من اللي انكَتب عليهم ينفّذوا اللي بيتقالّهم وِبَس، وِبَعد أسبوع، مَبقِتش تطلب منّي أفضَل في أوضتي زي ما كانت بتطلب، أنا بقيت أحضَر معاها تَحت، شوفت أكتر حاجة غريبة في حياتي، سِتّات كان باين عليهم إنّهم أغنيا جدًا، هدومهم والدهب اللي معاهم والعَربيات اللي بييجوا بِها، كل حاجة كانت بتقول إنهم عايشين عيشة محدّش يحلم بها، لكن كانت السِّت منهم بتيجي وتلبِس نَفس الجلابية اللي كُنت لابساها، وأحيانًا بتلبِس ألوان تانية، والطَبل بيشتغل، وكله بيبدأ يلِف حوالين المستطيل الخشب اللي الملاية البيضا مغطّياه، والبخور اللي طالع من الأبريق النّحاس اللي من تحته، لكن مكَنش ده بَس اللي موجود، كان في شموع طويلة ملوّنة، وأحيانًا دقّة الطبلة بتختلف، وكُنت بسمع “عدلات” وهي بتغنّي أغاني مش مفهومة، وفي كل مرّة، كانت أكتر حاجة مرعبة مرّيت بِها بتتكرَّر، صوت الديك وهو بيصيح لمّا بتنتِش الريشة من ديله، وبترسِم بها على جلابية السِّت اللي معاها، وبعدها بتدبَحه وتسيبه يصفّي دمه فوق راسها، وكل الموجودين بيبدأوا ياخدوا الدَّم بكفوفهم ويطبعوا على هدومها وعلى مِلاية المُستطيل الخَشب.
أحيانًا كُنت بغيب عن الوَعي، وبشوف نفسي قدَّام الجَبل، لكن ده كان بيحصل وأنا بلِف معاهم، وفي آخر مرّة شوفت نفسي هناك، لقيت الشَّخص اللي فوق الجَبل بيمِدّلي إيده، جِسمي اتلبّش، مُش عارفة ازّاي قدِرت أشوف تفاصيل إيده رغم المسافة اللي بينّا، كان لونها أسوِد زي وشّه، والضوافِر كانت طويلة ولونها أحمر، حاولت أرجَع بضَهري لورا؛ لمّا للحظة افتكرت الحاجة السودة اللي لمحتها تحت الملاية البيضا، لكن حسّيت وكأن في حيطة ورايا، لكن اللي كُنت شيفاه انتهى بمجرّد ما صوت الطَّبل وَقف، اتفاجأت بالسِّت اللي الدّيك اندَبح فوقها مَرميّة في الأرض، كانت جَنبي رجلي، بدأوا يشيلوها وينيّموها على كنبة الأنتريه، ولمّا فاقِت وكل حاجة رجعت زي ما كانت والناس مشيت من الفيلا، لقيت نفسي عايزة أفهم، عشان كِدَه قعدت جَنب “عدلات” وقولتلها:
-أنا مُش فاهمة حاجة، وبلاقي نَفسي قدّام جَبل، وفي هِناك شَخص شكله يخوّف.
مُش عارفة ليه كان عندي إحساس إنها مُش مهتمّة بكلامي، كانت هادية ومشغولة في الشِّيشة اللي بتشربها، وبعد ما فضِلنا ساكتين شويّة لقيتها بتقولّي:
-مَدِّلِك إيده؟
استغربت سؤالها وقولتلها:
-إيده شَكلها مُخيف.
معرفش إيه اللي خلَّاني أحِس إنّها اتضايقت، لكن كانت بتكلّمني بهدوء وبتقولّي:
-الأسياد ليهم هيبة، وليهم السَّمع والطاعة، دول مخلوقين قبلِنا، من عالم أقوى من عالمنا، هُمّا من نار وإحنا من طين، عشان كِدَه هُما الأسياد، اللي بيأمروا وإحنا ننفّذ، عشان يرضوا علينا ويحقَّقوا طلباتنا.
سألتها وقَلبي مَقبوض وقولتلها:
-يعني دول عفاريت؟
بصّتلي شوية وقالتلي:
-دول أسيادنا من الجِن.
مَكُنتش عارفة أرُد عليها، لكنّها سابِت الشيشة من إيدها وقالتلي:
-اسمعي يا “فاطمة”، أنا بَشتغل كودية زار، ولو الاسم صَعب عليكي فَتقدري تقولي عليّا شيخة، أو عرّيفة سِكّة، والزّار ده حاجة زي حفلة، الأسياد بيطلبوها منّنا من ضمن طلباتهم عَشان نرضيهم وينفّذوا لنا طلباتنا، أنا دوري زي السِّمسارة، وسيط، بعمِل الزَّار زي ما شوفتي كِدَه، واحدة لابسها جِن بطرده عن طريق الأسياد، اللي بيكونوا أقوى منّه وبيخلّوه يسيبها، وفي نّاس عمومًا نفسيّتها بترتاح لمّا بتحضر الزَّار أو بتشارك فيه، يعني مُش شرط اللي بتعمل الزَّار تكون تعبانة أو ملبوسة، هي ممكن تكون بترتاح لمّا تسمع الطبلة وتطَّوح وتحِس بِدَم الطير نازل عليها، أنا ورثت الشغلانة دي من أمي، أصل الأسياد بيشترطوا إنّها تكون بالوراثة، لكن أنا حظّي كان وِحش، طلِعت مَبخلّفش، جوزي رماني واتجوّز غيري، وأنا مفيش عندي بِنت تورِث منّي المهنة، في الحالة دي الأسياد بتسمح إن اللي تورث المهنة تكون من العرايس، يعني من اللي بيشتغلوا معايا، لكن أنا حبّيت أختار بِنت تكون صغيّرة، ومالهاش حَد، عشان كِدَه مكَنش قدّامي غير الملجأ، واخترتك لمّا شوفت المَلف بتاعك، لقيت فيكي كل الشروط اللي طلبتها، ومكَنش فاضل غير شرط إنك تِكبري، وأهو حَصل، وبعدها شوفتي سيدك “سُلطان الجَبل” وهو بيمدّلك إيده، يعني موافِق عليكي، وده معناه إنك هتتعلّمي منّي كل حاجة، ومع الوقت مش هيبقى “سُلطان الجَبل” بس، دا أنتي هَتخدِمي أسياد كتير، هاتمنحيهم نَفسك وهَيخدموكي.
-بَس أنا بخاف من الحِلم اللي بشوفه.
-ما أنا قولتلك، هُمّا ليهم رهبة، لكن مع الوقت هتطَّمني، لمّا تعرفي إنهم كل ما كانوا راضيين عنك كل ما هَيحموكي، وأهو أنتي شايفة العِز اللي أنا فيه، في ناس بتدفع فلوس بالعبيط عشان تطرُد الجِن اللي لابسها أو تِحضر طقوس الزار عمومًا، وأنا زبايني ناس متريّشين، أومال العِز دَه منين؟
مع الوَقت، بقيت أحفَظ كل حاجة “عدلات” بتعملها، وفهمت إن كل سَيد من الأسياد له طلباته، ونوع البخور اللي بيحبّها، ولون الهدوم اللي بيشترطها، ودقّة طبلة معيّنة، وأغنية خاصة به، وبقيت حافظة كل تفاصيل الزّار أكتر من اسمي، ومع كل سَيّد من الأسياد كان بيرغب إني أخدِمه، كانت حكايته بتبدأ بِحلم بَعد ما اتعلِّمت أقول حاجة زي القَسَم عشان أمنحه نَفسي، كان الحِلم بياخُد مراحله لِحَد ما في النهاية يمدّلي إيده، وبقيت كودية زار، عرّيفة سِكّة، أو شيخة زي ما كنت بسمعها كتير، وبقيت أعمل الزّار بنفسي، الزار الأسبوعي، اللي كان في زباين بتحضره كل مرة، ماهو كان لازم كل أسبوع نعمل الزار عشان ده دليل على احترامنا للأسياد، وبقيت أعمل الزار الكبير، موسيقى ورقص وتمائم وبخور وأغاني، دفوف وطبول وطنبورة وعزف منجور، كل سيد من الأسياد كان له الحاجة اللي ترضيه، عشان في الزار الكبير بنكون بنطلب من الأسياد تِشفي مريض أو مريضة، دا غير الحفل الحولي، الزّار السنوي يعني، اللي كان لازم كل سنة نعمله في شهر رجب، وده كان مطلب رئيسي للأسياد، زي ما بيطلبوا إننا منعملش أي زار في رمضان، وقبل ما “عدلات” تموت بمرض غريب مالوش علاج، كَتبتلي الفيلا وكل حاجة تخصّها، لأن مكَنش لها حَد.
مكُنتش أعرَف إن القَلب ممكن يموت مع التعوّد، قَلب “فاطمة” اللي كان بيخاف من مجرّد حِلم شافِت فيه سَيّد من الأسياد، بقى عنده فضول إنّها تِخدم أسياد أكتر، وتمنحهم نفسها، وتِجلب زباين أكتر، وصلت لمرحلة وكأنّي بتغذّى على الجَشع، الحكاية موقفِتش معايا عند جلسات الزّار بَس، دا أنا طلبت من الأسياد أتعلّم ازّاي أسلَّط الجِن على بعض الناس اللي بيعاندوا معايا، أو بيجادلوني وبيحاولوا يثبتوا إنّي بخرَّف، وأنا من كُتر ما كُنت بَرضي الأسياد، كُنت بشوف أحلام كتير وهمّا بيعلّموني ازّاي أسلّط الجِن بالأذى، كان يكفيني بَس إنّي آخد باقي فنجان القَهوة اللي بيشربه الشَّخص دَه، عشان أخلّيه محتاج مساعدتي، وكان فعلًا بيجيلي وهو بيتوسّل إنّي أساعده من اللي بيحصل معاه، وكان بيشفى على إيدي في الزَّار، بعد ما بطلُب منّه أو منها المبلغ اللي ييجي على لساني.
لِحَد ما في يوم شوفت فيه حِلم رجّعني للخوف تاني، لمّا لقيت نفسي قدَّام الجَبل، وكان هو فوق بيمدّلي إيده، لكن المرّة دي لقيتني بطلّع، وبدون إرادتي؛ لحد ما وقفت قدّامه، أنا كُنت بعمل كُل حاجة ترضيه عشان يحقّقلي طلباتي، لكن دي المرة الأولى اللي أكون واقفة فيها قدّامه في حِلم، كان طالع من جِسمه صَهد كأنّي واقفة قدّام فُرن، وشّه الأسود مكَنش فيه أي ملامح، زي مايكون كتلة دخان لونها أسود بتتحرّك، ولقيته بيمِد إيده ناحيتي بضوافرها اللي لونها أحمر، وبيمسِك إيدي الشمال، جِسمي كان بيتزلزل، وكُنت حاسة إني مسلوبة الإرادة، مكُنتش قادرة أبعِد إيده، ولا حتّى فكّرت، أنا نسيت إنّي سلِّمت نفسي لهم من سنين، ومقدرش أعارِض أي حاجة بيطلبوها، عشان كِدَه لمّا شدّني من إيدي ودخل بيّا المغارة اللي كنّا قدّامها؛ لقيت نفسي بروح معاه، وفي اللحظة دي بَس، كرِهت اليوم اللي منحتهم فيه نَفسي، أو وافِقت أكون فيه كودية زار.
جوَّه المغارة في الضلمة، مكُنتش شايفة، ولا حاسّة غير وهو زي الديب بينهش في جِسمي، وكُنت كل ما أحاول أصرخ، أحِس بإني مُش قادرة أتنفّس، كان في حاجة بتمنعني، لِحَد ما قومت مفزوعة من النوم، لكن مكُنتش طبيعية، هدومي كلّها كانت تُراب، السرير كان متبهدِل، وكُنت حاسّة بِصَهد من حواليّا، ولقيت علامات لونها أسود على دراعي الشِّمال مكان ما مسِك إيدي في الحِلم، ومع الوَقت عرفت إنّي كُنت معاه فعلًا، وإن اللي حَصل جوَّه المغارة حقيقي، مكُنتش متخيّلة إني منحتهم نفسي للدرجة دي!
كُنت نسيت إنّ من ضمن الشروط إنّي أمنحهم نفسي بدون قيود، ودلوقت بَس فهمت يعني إيه بدون قيود، عشان يمنحوني أي حاجة بطلبها منّهم، لكن مكُنتش أعرف إن الموضوع هيوصل لِكَده، ومع الوقت اكتشفت إنّي حامِل، كنت مصدومة، ومعرفش هقول إيه للناس ولا أتصرف ازّاي، فكَّرت في الإجهاض، حاولت كتير بالطرق العادية لكن مكَنش في نتيجة، دا غير إن مع كل محاولة كنت بعملها؛ كان بينتِقم منّي، كُنت بقوم من النوم مفزوعة كل ليلة، وكأن واقعة من فوق جَبل، جسمي كلّه كدمات، مكُنتش بقدر اتحرَّك، ومن وقت ما دَه حصل، وأنا وقَّفت جلسات الزَّار، مكُنتش بقدر أظهر قدّام الناس، وقبل ما الحكاية تتكشِف، مكَنش قدَّامي غير إني ألجأ لدكتور من اللي بيعملوا العمليات المشبوهة، واللي طلب مبلغ كبير عشان ينزّل الجنين، وفعلًا عملت العملية، لكن مكُنتش أعرف إن العملية دي كانت نهايتي، زي ما أنا قرَّرت أنهي حياة ابن مخلوق من اللي عِشت حياتي أرضيهم ومنحتهم نفسي.
الانتقام كان شديد، خسرت كل فلوسي على الدكاترة بدون فايدة، مَفيش حد قدِر يعالِجني من الشَّلل النصفي اللي جالي، حتى إنّي سافِرت برَّة، وعرفت إني حالة ميؤوس منها، دا غير إنّي خِسرت الفيلا وكل حاجة، حتّى النّوم خِسرته، لأني كُل ما كنت أحاول أنام أشوف نفسي على باب المَغارة واقفة قدّامه، لكن بعد اللي حصل، في كل مرَّة كنت بشوفه وهو بيخلع عيني بضوافره، لِحَد الدُّنيا ما رَمتني في دار مُسنّين، ومعُدّتش بعمل حاجة غير إنّي أقعد على الكُرسي المتحرِّك قدّام شبّاك الأوضة اللي عايشة فيها، وأشوف خياله الأسود كل ليلة وهو بيبُص ناحيتي من الشِّباك المفتوح، ولأنّي مَعُدتِش بتحرّك؛ مكُنتش بعمل حاجة غير إنّي أغمّض عيني وِبَس، عشان مَشوفوش قدّامي؛ لكن كُنت بشوف اللي هو أقسى من كِدَه، هو إنّي كان مُمكن أسلك طريق غير دَه، وبشوف الطريقة اللي ماتت بِها “عدلات”، واللي أنا تقريبًا وصلت لنفس المرحلة اللي كانت فيها، وحياتي اللي كانت عبارة عن خط سير طويل كله حفلات زار، ما بين نقطتين، الملجأ ودار المُسنّين!
*

الكاتب

  • محمد عبدالرحمن شحاتة، مصر، مواليد 1989، حاصل على بكالريوس تجارة قسم محاسبة. يكتب الرواية والشِّعر الفصيح. صدر له أكوديسفا "رواية"، الموقع الأسود "رواية"، حفرة جهنم "رواية" كيد ساحر "رواية"، ليلة في عَرَقَة "مجموعة قصصية"، السّمنار "مجموعة قصصية"، كارما "سلسلة حلقات الموقع الأسود الإليكترونية-الموسم الأول". كما صدر له خمسة دواوين من الشعر الفصيح. نُشرت له عديد من القصص القصيرة والمقالات والقصائد في عديد من الصحف والمجلّات.. حائز على جائزة الإبداع  عام 2012- المركز الأول.

شارك هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *