لقد عاد
هذه بحر، بنت عاديةٌ جدا، كأي صغير في عمر السابعة، لا تُطلق أشعة ليزر حمراء من عينيها ولا تتحوَّل ليلا لذئب مفترس يلتهم لحوم البشر، عاديةٌ جدا، بتقاسيم وجه جميلة وشعر بني قصير، مع نظرةٍ ودودة من عينيها تجعلكَ تندفع إليها لتأخذها بين ذراعيكَ وتهمَّ بقراءة القصص لها.
كانت ذكية لمَّاحة لا يخدعها شيء مما جعل صديقاتها يشعرن بشيءٍ من الغيرة منها، أخبرتها إحداهن ذات مرة أن الأشباح يزعجهم وجودُ الأولاد الأذكياء الأشقياء أمثالك، لذلك ما عليكِ إلا أن تحترسي ولا تغفلي عن كل ما يدور حولكِ، لم تكن بحر بتلك السذاجة التي تجعلها تهلع وترتبك بل كانت تعتقد أن لديها من الشجاعة ما يكفي للوقوف في وجه أي شيء..
كانت بحر تسكنُ بيتا كبيرا واسعا يغرق في جنينةٍ خضراء بديعة مع إخوةٍ كُثر يتيه كل واحد منهم في عالم أفكاره الخاص به حتى لا يكاد أيٌّ منهم يشعر بوجودها، إنهم ينشغلون طيلة اليوم فلا تلمح بحر وجودهم إلا ساعةَ يحين وقت العشاء، فتنضم إليهم على المائدة الكبيرة وتجلس فتغوص في كرسيها بهدوء بينما تتسلل إليها أصواتهم العالية متفاوتةُ النبرات، فتكتفي بالتحديق إلى صحن الطعام الموضوع أمامها في شرود فيما أسئلة كثيرة تدور في نفسها، ماذا لو أخبرُ الجميع بما يحدث معي؟ هل سيصدِّقني أحد؟ كلا، سيهزؤون مني ولا شك، لكني لستُ أكذب ولمَ أكذب أصلا؟ سأقولها وليحدث ما يحدث بعدها، وراحت تردِّد بهمس خافت مخفضة رأسها:
هناك من يتسلل لغرفتي ليلا يمسكني من ذراعي، أصحو فزعةً فلا أجد أحدا، هناك من يتسلل لغرفتي ليلا يمسكني من ذراعي..أصحو فزعة فلا أجد أحدا..أصحو فزعة فلا أجد أحدا..
قطع تركيزها صوت والدها وهو يسألها باستغراب بدى جليًّا في عينيه:
بحر..هل تكلمين أحدا؟
فاندفعتْ ووقفت بذعر فيما أحكمتْ قبضتي يديها الصغيرتين وهي تتنفس بانقطاع وخاطبت الجميع بنبرة صوت سريعة مرتجفة:
هناك من يتسلل لغرفتي ليلا يمسكني من ذراعي..أصحو فزعة فلا أجد أحدا..
اكتستْ كل الوجوه بالاستغراب لقولها الذي كان مفاجأة، مفاجأة بدت لمعظم إخوتها مزحة مضحكة تفاعلوا معها بالسخرية والضحك لكن والدها سألها بعجب:
ماذا تقصدين يا بحر؟
وقبل أن تجيب قالت أمها بنبرة تأكيد:
شيء كهذا لا يمكن أن يكون سوى كابوس يراودك.
إجابة كهذه كانت لتكون متوقعة..فشيء مرعب بلا شك هو كابوس ولا شيء غيره..عادة ما يخاف الأطفال الأشباح ويتهيؤون وجودها لكن بحر ليست كأي طفل كما أن ما يراودها ليس كأي شبح كالأشباح التي تتخذ الشكل الشفاف أو الدخاني وتطفو في الهواء..بل إنه يدٌ ساخنة كقطعة من الجمر تخرج من قلب العتمة لتمتد لذراعها فتسحبها حتى تكاد تفصلها من مكانها.
التفت الأب لابنه الأصغر وقال:
رضوان، أهذه واحدة من ألاعيبك؟
رفع رضوان رأسه وقال بفم محشو بالطعام ونظرة دهشة:
ماذا؟ ألا يوجد في هذا البيت غيري؟
مشت بحر بخطوات ثقيلة اتجاه غرفتها التي لم تعد تريد البقاء فيها دقيقة أخرى بعد، فهي لا تشعر بالأمان هناك، ما إن ينطفئ ضوء الغرفة حتى تشعر بوجود أحدهم لا تتبين من يكون ولكنه يتربص بها كل لحظة الليل بطوله، لم يعد الأمر سرا فقد أخبرت الجميع ولكن لم يصدقها أي منهم..عدا والدها الذي كان أكثرهم قلقا واهتماما، لكن لماذا لا يصدقون؟ ذلك الكيان الذي يتتبعها قادر على فعل شيء ما..قد تستيقظ ذات يوم لا تعرف أين هي أو قد يأخذها بلا رجعة فتجد نفسها في صحراء مقفرة..أو في عالم عجيب..قد يقوم بتقطيع أعضائها الصغيرة واحتساء دمها على مهل..سيكون كريما لو أنه اقتلع يدها من ذراعها المتفحمة اللون فيكتب بأصابعها النحيلة الزرقاء رسالة وداع لأهلها حتى يتوقفوا عن القلق الذي يسلب منهم حياتهم، هل كانوا سيصدقون حينها..من الصعب أن يصدقوا وهم لم يشعروا..
وقفت عند باب غرفتها للحظات ثم اندفعت للداخل وهرعت إلى السرير لتختبئ تحت الغطاء، تكورت حول نفسها وأغلقت عينيها..باغتها النعاس فغفت، لم تدم سوى دقائق حتى شعرت بيد تلكزها في كتفها بنقرات متتابعة بدأت بحركة بطيئة ثم اشتدت لتصير أقسى..فتحت عينيها بطريقة سريعة وقد اتسعتا بأوسع ما يمكن وابتلعتا كل ملامح وجهها، كان ملمس أصابعه ساخنا ملتهبا، لامس ذراعها بأصابعه فتحركت لتنهض وهي تقطر عرقا فيما تملكها خوف شديد..وما كادت تستوي في جلستها لتفرّ خارج السرير حتى نترها بقوة يدٍ منتقمة من ذراعها حتى كاد ينتزعها من مكانها وقذف بها على الأرض لتسقط مطلقة صرخة قوية أيقظت جميع من في البيت، فهرعت أمها مسرعة نحوها ودفعت الباب لتجدها تنتحب بصوت مكتوم مرتجفة في ذعر.
لم تستطع بحر أن تغلق عينيها بعد ليلة أمس، واستمرت جالسة على سريرها وهي تحدق في كل شيء حولها بعينين جاحظتين..لقد كان أفظع شيء أحسته في حياتها كلها، حياتها التي لم تعش منها سوى سبع سنوات فقط..لم تكن تشعر بالأمان إلا مع طلوع الشمس..وكلما تذكرت قدوم الليل استجاب جسمها كله لشعور واحد غامر..هو الخوف، الخوف من أن تأوي إلى سريرها الذي صارت تتخايله صخرة قاسية في قلب صحراء خالية، بقيت جالسة حتى تقدم منها والدها وهو ينظر إليها بعينين مشفقتين..إنه يصدقها وهذا ما كانت ترتاح له..أن يصدقها أحدهم، قال وقد جلس بجانبها معانقا إياها:
بحر، لا أريدكِ أن تخافي، إن كان ما يحدث معك حقيقة وهذا ما أنا متأكد منه فلن نتوقف حتى نعرف السر ورائه، المهم ألا تخافي..
وبنبرة صوت خافت مرهق:
إني أحاول.
لم يكن رضوان يترك أي فرصة لمضايقتها فما إن غادر والدها حتى تسلل إليها واقترب ليهمس في أذنها:
في المرة القادمة سيقضم أصابعكِ العشرة كلها ولكنه قبل أن يأكلها سيقوم بتغميسها في الصلصة الحارة لكني أشك في أن مذاقها لن يعجبه، صدقيني..من هو الشبح المتهور الذي قد يجازف بنفسه ويُدخل في معدته أصابع بنت شقية مثلك.
التفتت بحر إليه وقالت بدهشة:
شبح؟
قال رضوان بصوت أخف:
أجل..أعتقد أن الأشباح لا تظهر إلا ليلا.
وغرقت بحر في بحر من الأفكار حول من يكون، لقد قال رضوان أن الأشباح لا تظهر إلا ليلا فماذا لو بقيت مستيقظة الليل بطوله ترصد قدومه..قد تفعل هذا لليلة أو ليلتين لكن لا يمكنها أن تبقى مستيقظة إلى الأبد..إنها على موعد معه الليلة أيضا، ليته يدرك أنه غير مرحب به وما أثقل الضيوف الغير مرحب بهم الثقيل وجودهم.. سيدخل غرفتها فلا يجدها، لأنها ستنام الليلة على سطح البيت، تحت النجوم اللامعة ولن يترك والدها هذه الليلة تمر إلا وقد عرف سر ما يجري فعلا.
مشت تصعد الدرج بخطوات متفاوتة بينما كانا ساقيها يرتجفان وهي تنظر في كل ناحية ممسكة بيد والدها الذي كان يسير متأنيا وهو يرمقها بنظرة تقول:
لا تخافي.
استطاعت أن تجلس بهدوء وهي تتجهز للنوم بجانبه، استلقت وقد تسلل إلى نفسها بعض الأمان فراحت تحاول أن تغمض عينيها، لن تفكر سوى في الأشياء التي بمقدورها أن تجعلها سعيدة بعيدا عن ذلك الكابوس المرعب..كان والدها متكئ ويبدو أنه لم ينم بعد، راحت تنظر إليه..ربت على كتفها يدعوها للاستسلام للنوم، كانت تغمض عينيها وتعيد فتحهما تتأكد من والدها إذا كان ما يزال صاحيا، لكنها لاحظته يميل قليلا وقد ارتخت أطرافه محاولا بجهد فتح عينيه..فتحهما وأغلقهما، فتحهما وأغلقهما، أغلقهما..يا للهول! صارت وحدها الآن وذلك الشبح لن يفوت فرصة كهذه، ارتعبت فجأة ومدت يدها ناحية والدها بلكزة خفيفة تدعوه أن ينهض لكنه لم يستجب..فارتعبت أكثر..شعرت بوجود ثقيل يدور حولها يكبت على أنفاسها، وما كادت تلتفت خلفها حتى فاجأها بقبضة من يده الساخنة التي تغلي حرارة، لو كنا في فصل الشتاء لهان الأمر بإمكانها أن تعتبره بمثابة كنزة صوفية تدفع عنها شيئا من البرد..لكن الوقت صيف وهذا لهو مؤسف جدا، نترها بقوة من ذراعها وسحبها إليه في حين انقطعت أنفاسها فزعا ولم تسعفها قوتها لتصرخ منادية ولم تكن محاولاتها في الانفلات منه لتفلح أبدا..سحبها على الأرض وتوجه بها إلى الدرج لتنزلق بمرونة حتى كادت تتقيأ قلبها هلعا..استجمعت ما لديها من قدرة على الصراخ وصرخت صرخات متقطعة حتى اخترق الصوت سمع والدها الذي انتفض باتجاهها بارتباك واضح ونادى:
بحر..يا بحر..
كان الصوت القادم قد خرّب على ذلك الكيان ذي اليد الملتهبة تسليته..فرفعها لأعلى ولوّح بها في الهواء ودار بها دورة كاملة بخفة ثم أرخى ذراعه التي لم ترى منها شيئا لتنزلق بسرعة على حافة الدرابزين..تشبثت بحوافه بكلتا يديها وهي في حالة من الدهشة والخوف من النهاية التي كانت وشيكة جدا..ظل بصرها راكزا على الفراغ بعينين زاد اتساعهما وسمعت وقع أقدام تنزل الدرج بسرعة وقوة وصخبا دلت على غضب صاحبهما..فسرت قشعريرة مفاجئة في جسدها اهتزت لها وتأملت ذراعها الذي تُركت عليها علامات خدوش بارزة من قبضة اليد القوية..تكورت بألم في حضن والدها الذي تقلصت ملامح وجهه وجلس على الدرج مشدوها كالمصعوق، قالت بصوت خافت مرتجف وهي تبتلع بقايا لعاب جاف:
لقد غادر..لقد غادر.
كانت تلك آخر مرة تُطارد فيها بحر من طرف ذلك الشبح، لكنها وبشجاعة محتمة صارت تتناسى الأمر وكأنه لم يحدث ولم يرجع ذلك الرعب مجددا وكأنه قد اختفى من حياتها تماما، نعمت بحياة هادئة حلمت بها كثيرا بعد أن صارت أما لصبي رسم لها بداية جديدة لحياة سعيدة.
وضعت الصغير على السرير، أطلت من النافذة تنتظر قدوم زوجها الذي تأخر فاستشعرت برودة رياح الشتاء وسمعت صوت هطول الأمطار قويا، أغلقت النافذة وعادت للسرير واستلقت بجانب الصبي..سرعان ما باغتها النعاس فغطست في النوم..شعرت بلمسة خفيفة دافئة..فتحت عينيها بحركة سريعة..لم تقوى على تحريك أي عضو في جسدها وكأنها قد تجمدت..وأحست بثقل شديد حولها..سحبت الهواء إلى داخل رئتيها اللتين تحولتا لصخرتين داخل صدرها..وقبل أن تزفر كل ذلك الهواء بحركة مفاجئة لكزها بنقرته المألوفة ليلفت انتباهها وبسرعة أحكم قبضة يده على ذراعها وهي تشتعل حرارة كأنه يعتصرها..قالت بصوت خائف:
لقد عاد..لقد عاد..
اترك تعليقاً