لُفَافَةٌ مِن حرير
أوقفنى بنظرة وإشارة. كان يقف أعلى سلم منزله الخارجي. تقدمت ناحيته. ثنى ساقيه ليقعد. صارت رأسه فى مستوى رأسى، قال لى:
– سيدى، طمئننى سمتك، وقلت لنفسي إنك الشخص الوحيد الذي يمكنني الوثوق فيه من كل الذين مروا من أمامى، فهل خاننى حدسى؟!
قلت مدفوعًا بالحياء، وبالرغبة في المساعدة:
– لا. لم يخنك حدسك، وإراداتى رهن أمرك.
دفع إليَّ لفافة من حرير قائلًا:
– ها هنا كنز حياتى وحياة قبيلتي، فلا تُضيّعنا.
تناولتها. تحسست نعومة الحرير فى يدى، وبشىء كالكرة، أو البللورة داخلها. شىء صغير، لكنه ثقيل ثقل حجر كبير من الجرانيت. وضعت يدى اليسرى؛ كى تؤازر اليمنى فى حملها، وقلت له بينما ألهث:
– وما المطلوب منى بالضبط؟
– لا شىء سوى الوقوف هنا دقيقة، أو أقل حتى أخرج لك مرة أخرى.
قلت مطمئنًا إياه:
– الأمانة كنز لا يفنى.
كان قد دفع الباب، واختفى من أمامى. اللفافة الثقيلة جدًا دفعتنى للنظر حولى؛ لأخفف عن نفسى هذا الإحساس بالضعف. نظرت لأعلى فإذا السماء غائبة تحت سيل من ظلام دامس لا يطرقه هلال صغير، أو نجمة تومض فى البعيد. فى الوقت نفسه كان الشارع يحيا تحت إضاءة قوية من ألوان مختلطة عجيبة. عدت للباب الغريب الذى تتلألأ ألوانه فتخطف انتباهى.
عاودت النظر إلى الشارع متمنيا أن ينظر لى أحدهم ويصمنى بالجنون، وأن ما وقعت فيه الآن هو مقلب من صاحب الدار الذى فعلها مع الكثيرين. حينها سألقى ما بيدى، وأمضى غير مبتئس، أو عابئ بشىء، لكن أحدًا لم ينظر فى وجهى وهو يمضى أو يحدثنى.. ومرة واحدة ضربنى يقين قاتل بأننى سقطت فى فخ؛ لأن كائنات الشارع كانت تمضى مسرعة دون أن تلتفت نحوى، وأحيانًا كانت تتلاشى من أمامى فى لحظة. عدت ببصرى بسرعة للشىء الوحيد الذى أعرفه.. إلى باب الدار الفخم الملون؛ لأمسكه بعينى فلا يفلت. كان قلقى قد بدأ يتزايد. وطوَّح بى قلق هائل حين فكرت فى كل الاحتمالات التى لا تسيطر عليها إرادتى الهشة. لكن لمَ أنا مرتبك، وخائف هكذا فى أمر لو تركته فلن أموت نتيجة لتركه؟!
هل أُلَام على ما لا أقدر على السيطرة عليه؟! لكن ها هنا رجل خائف استأمننى على كنز حياته، وحياة قبيلته، وأنا قبلت بمحض إرادتى فى وقت لم أكن أدرك فيه أننى لا أستطيع التحمل، فهل أخون الأمانة مدعيًا أن معرفتى بواقع حالى جاء متأخرًا؛ لذا فلست مسئولا عن أي شىء يحدث لى، أو حولى؟!
قلت لنفسى: لو تركتكِ نهبا للاحتمالات ستتلاشى إرادتى، وسأجدنى فى مواقف شبيهة وقد فقدت الثقة بقدرتى على التحمل، أو الإيفاء بالوعود. ساعتها سأؤنب نفسى على عدم بذلى أى مجهود لتحمل ما اخترته.
قلت أيضًا: ما يضيرنى لو فعلت أقصى ما يمكن أن أفعله. أن أقف مصلوبًا هكذا أمام الباب الفخم الملون ممسكًا اللفافة بيدي، منتظرًا صاحبها الذى قد يخرج فى أى لحظة منقذًا إياي من ورطة بطلها ضميرى الذى لا يكف عن تأنيبى. هنا شىء حقيقى وأكثر قسوة من مشهد جثة ملقاة فى الشارع. لقد قال الرجل قبيلتى ولم يقل أسرتى. ألا يدفعنى هذا؛ للتفكير فى مصائر عدد من البشر يتجاوز المِئة فرد.. رجال، ونساء، وأطفال. أمانى، وخطوات، وأحلام قد تُقصف فى لحظة لو مضيت فى طريقى غير عابئ بالآخرين.
قلت بعد قليل: فلأصعد لأطرق الباب، حتى يفتح لى أحدهم. ألقى إليه باللفافة، وأمضى كما تُقدِّر لى المصادفات الغريبة، أو أضعها بجانب الباب، إلا أن شيئًا ما منعنى. الغريب أننى ظللت لوقت طويل أراقب كل ما يتبدل أمامى، وأعاود النظر إلى باب الدار فأجده كما هو. أنا شحيح البكاء وجدتنى أنهنه فجأة، ثم تنفرط دموعى مدرارًا كأنه تنثال من مخزن لا ينضب، واتكأ على السلالم لاعنًا الدار، وصاحبها، وبابها الملون.
لم يأت أحد ليطبطب على، أو يشاركنى همومى التى لا تخصنى مباشرة، بل تخص آخرين تورطت فيها بمصادفة بحته، وفى واقع غريب لن يحاكمنى أحد بسبب مغادرته. لما ضبطت نفسى فى موقف ضعفها ذاك قلت: وما ذنب الرجل؟! الذنب ذنب من حمل الوعد ولا يستطيع أن يتحمل حتى النهاية.
فكرت فى الهرب، وأحسست بدافع يقف بمواجهتى، ويقول لى: قف وكن إنسانًا حتى النهاية. ورغمًا عنى التزمت مكانى مختزلًا كل أمنياتى فى باب الدار الذى سيفتح حتما ذات لحظة عن وجه الرجل الغريب الذى سيمد يده؛ ليسترد لفافته، ويعتقنى.
اترك تعليقاً