مخدع الذاكرة

مخدع الذاكرة

 

وقفت بانتظام أنتظر دوري بينما كانت تسرح أما شعر أختي الكبرى كان الفرح يغمرني يومها إذ أعلم أن أمي ستختار لكلينا التنورة الصفراء وقميصها الأبيض ذا الياقة الموردة، وسنتألق اليوم بتسريحة الكعكة لنبدو كفراشتين تنسابان بخفة في أروقة البيت…
انتهت أمي من إضفاء كل لمسات الزينة علينا ثم ارتدت هي أخيرا ثوبها الأبيض البسيط، لم تكن كل هذه التحضيرات من أجل اصطحابنا لعرس ولم يكن اليوم عيد، لقد كنا نتأهب للذهاب للمخدع الهاتفي لنتحدث مع العائلة… تشعر أمي أن حدثا كهذا له قدسيته وله طقوسه الخاصة ولربما تفردت بذلك، بل وكأن سماعة الهاتف آنذاك مزودة بكاميرا وبخاصية اتصال الفيديو كما هو الحال اليوم…
لم نكن وحدنا هكذا، كان التوجه إلى المخدع الهاتفي يعج بأحاسيس غير عادية يمكنني رؤيتها خلسة من خلال نظرات العائدين من مكالمة هاتفية كما كنت أرى ابنة جيراننا زينب تتسلل بجلباب كبير وتحمل حقيبة والدتها لتبدو كالسيدات وتذهب لتحادث عمتها المغتربة، كانت دراهمها القليلة تسدي لها فقط معروف الاطمئنان عن حال عمتها لكن كانت تمنحها بالمقابل الشعور بدور الكبار الذين كانت تطمح دائما أن تكون منهم…
أيام العيد يزداد الإقبال الجميع يريد أن يهنئ أحبته، لذلك كان الأمر يتطلب المزيد من الصبر والانتظار أحيانا للحصول على فرصة الاتصال رغم أن فرصة سماع الحديث تكون ضئيلة جدا إثر الضجيج المنبعث من المنتظرين خلف الزجاج…
جلسنا بانتظام فوق الكراسي الخشبية لانتظار دورنا، لم يزعجني الأمر أبدا كانت فرصة لأتمعن في ملامح الأشخاص جيدا وأرى انعكاس المكالمة على كل فرد عن قرب، كان ذلك ولسبب أجهله يعنيني جدا…
أربكتني ملامح الحاج صابر… مالك المحل لم أدقق يوما لأرى شيئا آخر غير عباءته المخملية واللافتة الزرقاء الكبيرة التي كتب عليها بلون أبيض “هاتف عمومي”، لكن شيئا كان منطويا بين الثنايا شيء لربما أعرفه منذ زمن بعيد لكنني لم أفكر به سوى الآن…
كان العم صابر يعيش وحيدا بعد وفاة زوجته، وكما تناقلت نسوة الحي اللواتي يسردن التفاصيل بتكرار بلا كلل ولا ملل فقد كان يملك أخا وحيدا يعيش خارج البلاد ولم يزره منذ سنين طويلة جدا هذه التفاصيل لم تتكرر للمرة الأولى على مسامعي لكنها لأول مرة ستتجلى أمامي ربما لأنني كبرت قليلا وأثقل النضج أحد جنحاي فلم أعد أقوى على الانسياب بخفة كالفراشة كما السابق…
طيلة هذه السنوات كان العم صابر يواري أحزانه بابتسامة تلفها بحزم عباءته التي تضفي عليه شموخا ورفعة، وطيلة هذه السنوات والنسوة يحكين القصة دون أن يقفن عند الأسطر والحي بحركته مجيئا وذهابا نحو الهواتف يعاود الرفس على جرح هذا الرجل…
مالك كل هذه الهواتف لم يجرب يوم الضغط على أزرار الهاتف ليسمع كلمة “ألو” منبعثة من أحدهم ولو عبر الخطأ، لم أشهده يوما يخطو نحو غرفة الهاتف لأن القصة تروي كذلك أن الاتصال انقطع بينه وبين الأخ الوحيد…
منذ ذاك اليوم وأنا أفكر في أمر العم صابر تراه حاز النصيب الكامل من اسمه! وغدا الصابر صابرا، شعرت أنني وحدي من استطاع أن يكشف ماخبأته العباءة وماداراه الكرسي الخشبي جيدا وهو يسمح للعم صابر أن يجلس مستقيما بزهو وعظمة تحجب عن الناس جميعا رؤية ما وراء أستار ذلك الظهور الفخم دوما…
فكرت في شعور ألم قد زاره وهو يرى اللهفة في عيون الزبناء قبل محادثتهم لأحبتهم، في خيبة شعر بها يوم وهو يرى إخوة يتبادلون تهنئة العيد وفي شعور بالفقد وهو يرى طيف زوجته في سيدة مسنة جاءت لتحادث ابنها المغترب فكرت في كثير من الأشياء التي لم أنتبه لها يوما…

الكاتب

شارك هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *