تيكي تيكي
(1)
“حادث قديم”…
-تيكي تيكي، تيكي تيكي.
أثار الصوتُ انتباهه فأوقفَ خطواته، تجمَّدَ للحظاتٍ؛ كي يتأكَّد من ذلك الصوت الذي سَمِعَه، لكنه وجدَ الدنيا من حوله صامتةً لا صوتَ فيها، الطريقُ مُظلمٌ والأشجار على جانبيه ساكنة، لا شيء يدعو إلى الخوف.
تابعَ خطواته في هدوء، في منتصفِ الطريق أثار الصوتُ انتباهه مرَّةً أخرى…
-تيكي تيكي، تيكي تيكي.
لكنَّه حينما أوقفَ خطواته هذه المرة؛ كي ينظر خلفه حيث يأتيه الصوت، أظلمتِ الدُّنيا وقد غابَ عنها؛ لقد سقطَ أرضًا، مقطوعًا إلى نصفين.
*
(2)
منذ ثلاثة أعوام وأنا أنتظرُ القِطار كل صباحٍ في محطَّة ناغويا مُتَّجِهًا إلى طوكيو، حيث أعمل هناك في مطعم زينوبيا، ثم أعودُ في وقتٍ متأخِّرٍ من الليل في نفس القِطار العائد من طوكيو إلى ناغويا.
ذاتَ يوم من أيامي الأولى هنا، أنهيتُ عملي في المطعم مبكّرًا، ثم اتجهتُ إلى المحطة وجلستُ أنتظرُ القِطار، حينها جلس بجانبي رجل عجوز، لمّا أصابه ملل الانتظار قرَّر أن يتحدثَّ إليَّ فسألني وقد عرفت من لهجته أنه جزائري:
-من أي بلدٍ أنت؟
رفعتُ وجهي عن المجلَّةِ التي كنتُ منشغلًا بقراءتها وقلتُ:
-مصر.
قال العجوز وهو ينظر إليَّ نظرةً عميقة:
-هل جئتَ كي تدرس أم تعمل؟
قلتُ بابتسامةٍ على وجهي:
-أنا “شيف” في مطعم زينوبيا.
ثم صمتَ العجوزُ قليلًا وقال:
-خُذها نصيحةً من عجوز يعيش هنا منذ ثلاثين عامًا، إذا جلستَ في وقتٍ متأخر في محطة قطارٍ وحدَك، ثم سمعتَ صوت “تيكي تيكي”؛ فعليكَ أن تغادرها مُسرعًا ولا تنظر خلفك.
أعدتُ المجلَّة إلى المكتبة الصغيرة بجوار المقعد، ثم نظرتُ إلى العجوز مندهشًا وقلتُ:
-ماذا تقصدُ؟
أجابني العجوز قائلًا:
-منذ سنواتٍ طويلة، قام بعض الرجال بالاعتداء على فتاة تُدعى “كاشيما رايكو” في محطة مايشين، ثم قاموا بتعذيبها بوحشيَّةٍ، لم يقدِر على إنقاذها أحد، كان الوقتُ متأخّرًا ولم يكن هناك مسافرون في محطة القِطار، سوى عدد يُعدُّ على أصابع اليد الواحدة، وقفوا جميعًا متخاذلين أمام هؤلاء الرجال الذين يحملون السلاح الأبيض، لقد استغاثت بهم دون جدوى، ظلت تقاومُ حتى استطاعت الفرار من بين أيديهم، لكنها سقطت فوق قضبان السِّكة الحديدية لحظةِ مجيء القِطار الذي شطرها نصفين.
توقَّفَ العجوزُ قليلًا، يبدو أنه يُفتّشُ في ذاكرته عن باقي القصة ثم أردف…
-بعدها زعمَ البعض أنهم رأوها تزحفُ بنصفها الأعلى فوق رصيف المحطة، تُصدر صوتَ “تيكي تيكي” أثناء زحفها، فإذا قابلها أحد سألته: أين قدماي؟ فإذا لم يستطع الإجابة جاء نصفها الأسفل زاحفًا من بعيد؛ كي يلتصقَ بنصفها الأعلى، ثم تزحف بجسدها كاملًا؛ بينما لا يستطيع من أمامها الحركة من هول ما يرى، ثم تنهض واقفةً؛ لِتُخرِجَ منشارًا من أسفلِ ردائها، تشطره به إلى نصفين.
كِدتُ أُعلِّقُ على ما قاله العجوز فأردف…
-ذات يوم بعد أن انتشرت قصَّتُها، سمعنا أنها قابلت رجلًا فتوقفَ وقد أخافته هيئتُها، وحينما سألته: أين قدماي؟ أجابها أن قدميها في محطة مايشين، ثم أتبعت سؤالها بسؤال آخر، من الذي أخبركَ بهذا؟ فقال: إن “كاشيما رايكو” هي من أخبرتني، فتركته وشأنه وأكملت زحفها بعيدًا.
لم يمهلني الوقت كي أجادلَ العجوز في خرافاته، أيقظَ القِطارُ هدوءَ المحطةِ فتأهّبتُ للمغادرة، كنتُ أنظرُ من النافذة نحو البنايات الشاهقة، مذ جئتُ إلى هُنا وأنا مُنبهرٌ بكل شيء، إنَّ التطورَ هنا لم يَدَع مكانًا للخرافة، وعجوزٌ عربيٌ مثل هذا يعيش هاهنا منذ ثلاثين عامًا ولم يستطع التخلَّص من ثقافة الخرافة بعد!
وصلتُ إلى حيث أسكنُ، بيتٌ من خمس طوابقَ أسكنُ في الطابقِ الأخير منه، عبارة عن ممرٍ طويل به غرفٌ كثيرة، كل غرفة لها نافذة تطلُّ على الممر ونافذة تطلُّ على الشارع من الناحية الأخرى، كانتَ نافذة الغرفة التي تسبق غرفتي مفتوحةً ومُضاءة، علمتُ أن أحدًا قد سَكَنَها، حينما اقتربتُ استوقفني وجه فتاة ملائكيٍّ يطلُّ من النافذة، فوقفتُ وقد غبتُ عن وعيي أحدِّقُ في ملامحها.
هذا البيت مخصَّصٌ للمغتربين العرب، هي عربيةٌ إذًا، اقتربتُ من باب غرفتي؛ لأدخل فأثار انتباهي صوت “تيكي تيكي”، نظرتُ إلى النافذة التي كانت تطلُّ منها الفتاة فوجدتها مغلقة ومُظلمة، ثم لمحتُ الفتاة تزحفُ فوق أرض الممر بنصفها العلوي فقط في عكس اتجاهي.
أسرعتُ إلى الغرفة ثم أغلقت الباب خلفي، دخلتُ إلى دورة المياه فوضعتُ رأسي أسفل الصنبور وأسلمتها للماء البارد، إنَّني أهذي بالتأكيد، لقد تأثرتُ بحديث العجوز دون شك.
*
(3)
إنها المرة الأولى التي يلتحق شاب ياباني بالعمل في مطعم زينوبيا، لقد نشأت بيننا صداقة بِحُكمِ أنه كان مُساعدي في المطبخ، كان يتحدَّث اللغة العربية الفُصحى بطلاقة، يدور بيننا حديث طويل كل يوم، حتى ذلك اليوم الذي سألني فيه عن أكثر الخرافات رُعبًا في مصر، لقد قصصتُ عليه الكثير من الحكايات، ثم تذكرتُ ما قاله العجوز وما حدثَ معي ليلتها، لم أتردد عن سؤاله عن الـ “تيكي تيكي” فقال:
-عليكَ أن تحذرها جيدًا، أنت تجلس في المحطة في وقتٍ متأخر تنتظر القِطار، بينما هي أكثر تواجدها في المحطات، المراحيض العامة، وقد تتبع بعض الأشخاص إلى أماكن سكنهم.
قلتُ وقد ظننته أنه سوفَ يصفُ كلام العجوزَ بالخُرافة:
-هل تصدقُ هذه الخُرافة؟
قال بكل ما أوتي من ثقة:
-ليست خرافةً يا عزيزي، إنها روح قد ملأها الانتقام بالشَّر، تشطرُ من يُقابلها ولم يستطع إجابة أسئلتها إلى نصفين.
-أوليسَ من الأولى أن تنتقم ممن اعتدى وقتلها؟
تركَ الشاب ما في يده وقال:
-ومن يدريكَ أنها لم تفعل؟ لكنها تنتقم من الآخرين الذين يرون الجرائم ولا يحاولونَ منعها، إن من يُشاهدَ الجريمة ولا يحاول منعها مجرم، شأنه شأن مرتكبي الجرائم تمامًا، لكنَّ الإجابة على أسئلتها هي من تحدّد ما إذا كان الذي أمامها متخاذلًا أم لا.
تظاهرتُ بأنني منشغل في عملي، لقد قال الشاب الياباني أنها قد تتبع بعض الأشخاص إلى أماكن سكنهم، إذا صدقَ؛ فربما ما حدثَ معي ليلتها هي أنها تبعتني، لكن لماذا تفعلُ ذلك؟
في محطَّةِ طوكيو بينما أنتظرُ القطار؛ لاحظتُ أنَّ المحطة خالية من المسافرين، وكعادتي، جلستُ أتصفَّحُ مجلَّةً تناولتها من مكتبة المقعد، ثم التقطت أذناي صوت “تيكي تيكي”، تجمَّدتُ في مكاني بينما يقتربُ الصوت حتى أصبح ورائي، نظرتُ بحذرٍ فإذا بها تزحفُ بنصفها العلوي تجاهي؛ لتسألني:
-أين قدماي؟
تذكَّرتَ ما قاله العجوز؛ لكنّي لم أتذكّر اسم محطة القِطار، تخشَّبَ لساني فلم أستطع النطق سوى بكلمة “محطة… محطة…”، حينها انقلبت عيناها إلى جمرتين، ثم امتلأ وجهها بشقوق سوداء وكأنه كاد أن يتهشَّم، ثم سمعتُ صوت زحفٍ يقترب، نظرتُ فإذا بنصفها السفلي يحاول الالتصاق بها، فغادرتُ المحطةَ مُسرعًا.
*
(4)
أوقفتُ “تاكسي”؛ ليوصلني إلى ناغويا، قطعتُ الطريقَ في وقتٍ طويل، لمّا وصلتُ إلى الشارع الذي أسكن فيه ترجَّلتُ من السيارة، مددتُ يدي بالنقود إلى السائق عبر النافذة، ولكنّي ألقيتها في وجهه وهرولتُ حينما رأيت جسده بلا قدمين.
ما إن وقفتُ أمام البيت حتى تظرتُ إلى سائق التاكسي الذي ترجَّل من السيارة مندهشًا من تصرفي، لقد كان يقفُ على قدميه!
أزعجني ما حدثَ كثيرًا، هل ما أراه هلاوس أم لعنة باتت تطاردني فعلًا؟!
دخلتُ إلى غرفتي وأغلقتها، غمرتُ جسدي بالماء الدافئ كي يساعدني على الاسترخاء، تذكَّرتُ أن غدًا عُطلتي فأغلقت هاتفي كي لا يوقظني أحد، ثم أطفأتُ إضاءة الغرفة وذهبتُ في نوم عميق.
“تيكي تيكي، تيكي تيكي”…
أيقظني الصوت من النوم، نظرتُ من حولي والغرفة مظلمة فإذا بعينين حمراوين بالقرب من باب الغرفة، لم يراودني شكٌّ بأنها تبعتني إلى هنا، هل لأني لم أستطع إجابة سؤالها ولذتُ بالفرار؟ كل ما في الأمر أني لم أتذكر اسم المحطة فقط.
إنها تقتربُ زحفًا على الأرض، لازلت أسمع ذلك الصوت الذي يسلبني أعصابي، لمّا اقتربت من السرير قفزتُ على الأرض، حاولتُ فتحَ الباب لكنه كان مغلقًا، أدرتُ المفتاح عدَّةَ مرَّات كي ينفتح بلا جدوى، اتجهتُ إلى النافذة التي تطل على الممر؛ كي أقفزَ منها، لكنَّها لم تنفتح أيضًا، ثم سمعتُ صوتها وهي تسألني للمرة الثانية:
-أين قدماي؟
وكما حدث في المرة الأولى؛ لم ينطق لساني سوى بكلمة “محطة… محطة…”، حينها ظهرَ نصفها السفلي في الغرفة والتصقَ بها، ثم نهضت من الأرض فابتعدتُ، حاولت مرة أخرى الخروج من الباب أو النافذة المطلة على الممر لكنّي فشلتُ، ذهبتُ إلى الناحية الأخرى من الغرفة، حيثُ النافذة المطلة على الشارع، حاولتُ فتحها، فانفتحت!
هل هذا يعني أنها تمنحني فرصة للقفز من الطابقِ الخامس؟ وقفتُ على حافة النافذة منتظرًا أن ينتهي ذلك الكابوس، لكنّها تقتربُ منّي في خطواتٍ بطيئة وكأنها لازالت تتعلَّمُ المَشيَ حتى وقفت أمامي، ثم مدَّت يدها أسفل ردائها فأخرجت منشارًا رفيعًا فأغرقَ العَرَقُ جبهتي.
هل سأصبحُ مثلها؟ لم أكن أتخيَّلُ أن ينتهي بي الأمر هكذا، نظرتُ ورائي إلى الشارع، نفضتُ عن رأسي فكرة القفز، فربما هناكَ فرصة للنجاة، عاودتُ النظر داخل الغرفة فإذا بوجهها الذي تملؤه الشقوق يكاد يلتصقُ بوجهي وهي تبتسمُ ابتسامة شيطانية، أصابني الفزع فاندفعتُ إلى الوراء، فوجدتُ نفسي أسقطُ في الشارع بينما وجهي إلى الأعلى، أحدِّقُ في وجهها الشيطاني وهي تنظر إليَّ بينما تطلق ضحكات مجلجلة، قبل أن يصطدمَ جسدي بالأرض.
*
محمد عبد الرحمن شحاتة
اترك تعليقاً