اعتراف
إن لم تواجه ما واجهته، أو تعلم شيئًا عن حياتي، فمن يمنحك الحق كي تحكم على تصرفاتي؟
قد تراني محتالًا أو خبيث الروح، ظالمًا أو مظلومًا، و لكن ما تراه لن يسعدني أو يشقيني، فأنا موظف بسيط قد لا يلفت انتباهك وجوده بين كل هذا الكم من البشر في مكتب واحد، و ربما أظن أني أهمهم، فلن تستطيع الحصول على ما تريد دون توقيعي، توقيعي له ثمن يجب أن تدفعه، و يمكنك أن تقدره بذكائك، و لن أشترط عليك رقمًا فلا تقلق، سأترك هذا لك، أعرف ما يطرأ في ذهنك جيدًا، تراني بلا ضمير، أو مباديء، بل مجرد إنسان ملعون يقبل الرشوة مدعيًا أنه يمتلك سلطة ما، مثل حفنة من طين تحولت إلى تمثال فنسيت ما كانت عليه من وضاعة، لكني أكرر لك أن رأيك لا يهمني، بل أنساه تمامًا فور عودتي إلى منزلي المتهالك، الذي يقع في زقاق ضيق قد لا تلمحه حين تتنزه بسيارتك الفارهة، و إلى أسرتي المكونة من أب، أم نهش المرض جسديهما ، و زوجة جميلة بسيطة الملامح ، و أربعة أبناء أوسطهم مريض بمرض عضال، و أنا وحدي المسئول عنهم، أنا ربان السفينة، قائدها الوحيد، هل اقتنعت الآن كم أنا مهم؟
لقد بدأ الأمر على استحياء فكنت أفتح درج مكتبي ، ثم أنظر للعميل، بينما أتلفت فزعًا حين يضع مبلغًا صغيرًا داخله مقابل إنهاء أوراقه، أما الآن فقد صار الأمر عاديًا لا يحتاج إلا إشارة من يدي، و كأنني إنسان بريء يؤدي عمله و هو يجلس في مقعده باسترخاء، أما من يعارض أو يمانع في السداد فله مطلق الحرية أن يتسلم أوراقه بعد تقديمها بوقت بسيط قد يصل إلى ستة أشهر، و ربما أكثر.
يومٌ فيوم ينتابني شعور أني أتحول إلى إنسان غير سويّ لكن إحساسي بالفاقة، المرض، الجوع الذي يحيطني، و أسرتي كان يشد من أزري فأكمل المسير، دون أن ألتفت لحديث، أو نظرات ساخطة يطلقها الآخرون، فما أردت إلا أن أحيا مثلهم، و لم أجد طريقًا أيسر كي أفعل، و كفاني ما يصل إلى يدي من أموالهم حتى إن كانت دون رضاهم، و تصحبها اللعنات، فهي تسد شيئًا من احتياجنا، رغم أنها مهما زادت لا تكفي كأنما محيت بركتها، بل كأنها هشيم تذروه الرياح.
صرت أدور داخل نفس الدائرة، و لا أستطيع مغادرتها، أو التخلي عما أحصل عليه مهما قذفني عميل بسهام كلماته، و ذكر أني بلا أخلاق، أو ضمير، فقد تخليت عنهما منذ زمن بعيد، و أنام كل ليلة قرير العين بعد أن تمكنت من توفير قوت يوم آخر، حتى زملائي لم يعد الخوف منهم يقلقني، فأنا أمسك جيدًا بزمام الأمور، أم تظنني إنساناً سهلًا؟
لقد خططت منذ البداية كيف أغلق فم كل منهم بخطٍأ ارتكبه داخل العمل أو خارجه، هل تراودك نفسك في تلك اللحظة أن تضيف إلى شخصي صفة جديدة؟
أكاد أجزم أنها الابتزاز، انتهاز الفرص، و اسمح لي أن أخالفك الرأي، فأنا أحاول أن آمن غدرهم فحسب كي يسير كل شيء على ما يرام، و لم يؤرقني سوى مديري الجديد الذي حذرني عدة مرات، و لم أفلح أن أضمه لجمهور الصامتين، هل يوجد إنسان على وجه البسيطة بلا أخطاء؟
عقلي لا يعي أن أقابل إنسانًا صادقًا عفيف القلب، اليد إلى هذه الدرجة، وسط حيرتي، و بحثي خلفه لم أفطن إلى قدراته الحقيقية إلا حين غافلني، و دبر الأمر مع أحد العملاء للإيقاع بي، في واقع الأمر لم يلزمه كثير من الجهد فقد أعماني غروري، و أغرتني ثقتي الزائدة بنفسي عن اتخاذ الحذر رغم يقيني أنه يتربص بي، أما عن حكم القاضي فكان أقصى عقوبة لأني ببساطة لم أملك ما أمنحه إلى محامٍ ماهر كي ينقذني، فكل ما أحصل عليه يذهب سريعًا كأن لم يأت، و استقبلت الحكم بصلابة، و رباطة جأش، لم تحركني دموع زوجتي، أطفالي، و عيونهم الممتلئة بنظرات مفزعة تتساءل عن مصيرهم دوني.
كان بداخلي يقين أن الله لن يضيعهم، فالإثم إثمي في كل الأحوال، و أنا أكتب الآن من داخل زنزانتي الجبرية التي يشبه ليلي فيها نهاري عسى أن يقرأ أحدهم اعترافي ، فيلتمس لي عذرًا أو يسامحني، و يصدق أني نادم رغم كل شيء، و ما زلت أبكي على لبني المسكوب، حريتي الضائعة، لكني أطمع في التوبة، عسى أن يفتح الله لي بابًا فأكون من المقبولين.
اترك تعليقاً