رحلة قطار
(1) ولادة:
_____________
في مشهد فوضوي يعج بالهرج و المرج فجرا، يعلو صراخ سيدة فاجأها المخاض بمحطة القطار و قد تشبثت بذراع زوجها الذي ارتبك بذعر صائحا بها:
دلوقتي؟! دلوقتي يا هدى؟ مش لسه فاضل إسبوعين؟ و الله أنا كان قلبي مش مطمن لمجيتك معايا!! حد يلحقنا! دكتور! دكتور!
مرت دقائق قبل أن ينتبه المارة لاستغاثته و صراخ زوجته التي بدأت قدماها تخوناها و قد جلست على الرصيف بينما جبينها يندي بعرق يتصبب بين حاجبين قد عقدا من الألم.
تجذب قميص زوجها الذي يستخدم ذراعه الآخر للاستغاثة بالمارة الذين تكاتفوا معه بدورهم صائحين بحثا عن طبيب:
أي دكتور! الست بتولد!.
يمر طبيب على الرصيف المقابل و يلفت نظره مشهد التكدس، يرهف سمعه فيسمع النداء غير واضح، و لكنه لا يلبث أن يلمح الرجل و زوجته فيستوعب الموقف و يهرع إلى سلم المشاة للوصول إليهم.
يزاحم المارة و جموع المسافرين التى تلاحمت مع الأمتعة و الباعة و العاملين بالمحطة.
يصل أخيرا إلى الزوجين، و لكن الزوجة تكون قد بدأت بالفعل في وضع جنينها بينما تساعدها بعض النسوة المحيطات بها و قد جذبنها بصعوبة لركن قصي غير مجروح من المحطة خلف أحد الأكشاك.
يتدخل الطبيب بينما زوجها قد أصابه شلل الهلع، و تفسح النسوة له فيتمم عملية الولادة و تعلن صرخة الحياة بدء عمر الوليد بينما تعلن صفارة المحطة بدء رحلة القطار.
يشكر الزوجان الطبيب و يسألانه عن إسمه حيث بيتا النية أن يسميا وليدهما بإسمه امتنانا له، فيرد الطبيب باسما: يحيى.
(۲) عربة النوم:
_________________
توجه مباشرة إلى عربة النوم، يعلم أن لديه غدا برنامج حافل بالمهام التي تتطلب من عقله اليقظة و من جسمه النشاط.
قضى أول بضع ساعات من رحلته نائما، ثم قرر أن يقرأ بعض الكتب التثقيفية و الصحف اليومية للإلمام بما تتطلبه مهمته من خلفية معرفية.
أخذ يجوب كل حين بذلك الممر الطويل الذي يتوسط القطار بينما عيناه تتفحص بقية الرواد، مر وقت بين هذه الجولات كان يقضيه بمقعده يتناول ما أعدته له والدته من طعام يتزود به ليتسطيع الصمود لمجهود يومه المرتقب.
تتلقفه أفكار تحتل رأسه لتستعرض ماضيه تارة فيختمر الحنين بوجدانه مانحًا إياه دقائق من ثمالة ذكريات الاعتمادية الطفولية التي كان يرتع فيها بين أحضان أمه و أمان أبيه.
لا يلبث أن يستفيق على حاضره المشحون بنسيم بارد يهب عليه من نافذة القطار فيلفحه بجفاء الواقع الذي يقتحم قلبه فيكاد يتشقق جداره قلقا.
يحول تشتيت أفكاره تلك بالمشاهد التي يطالعها عبر النافذة متأملا الحقول و البيوت الصغيرة التي تلوح له كشريط سينمائي حي.
يسرح في تلك الحياة التي تبدو له بسيطة و يتساءل عن جدوى سعيه المحموم في مضمار المنافسة.
لا يتذكراللحظة التي اختار فيها هذا المصير؛ دائما أبدا كان وجوده بالموقف يسبق تأهله له، لم تتاح له أبدا الفرصة في التريث و البحث عما يرجو من حياته، كان القدر دائما يداهمه بالأمر الواقع، و كان هو دائما يقع تحت طائلة ما يمليه عليه القدر. يمضي بعض الوقت بينما تتناوب عليه الحيرة و الحسرة، يقطعها كل حين بمحاولات للتحليق في أمل المستقبل الذي ينتظره غدا، يمني نفسه بجائزة السعي و لكن لا تلبث أن تفلت من تلابيب ذهنه تلك الخاطرة فتسلمه مجددا إلى عبث أفكاره به.
(۳) الرحلة:
_____________
يجلس أمام زوجته بالقطار بينما يجلس بجوار كل منهم أحد الأبناء.
لا زال يميز عطرها؛ ذلك العطر الذي أسقط تعويذة سحرها على كتفيه – دون قصد منها- في يوم لا يبدو له بعيدا رغم مرور السنين.
يطالع وجهها بحنين، فلطالما كان هذا الوجه المطل عليه كبدر في تمامه محطة لأفكاره،تتوقف عنده عن سباقها المحموم لتسترخي بتلك الملامح الهادئة، تروي عطشها من فيض عينيها الدافئتين و تلتقط أنفاسها من عبرات شفتيها الهامستين بكلام يذيب تعبه و يرفع عن كاهله همه، يراها ترتشف بهما قهوتها برقة، فيتذكر أن يرتشف قهوته هو الآخر.
يتأمل طفليه النائمين فتختلط بقلبه أحاسيس متناقضة من السكينة و القلق، الأمل و الخوف، المتعة و العنت.
تبدو رحلته و قد دنت من مستقرها بينما يبدوان له في ضعفهما و هشاشة حالهما في مقتبل رحلة أخرى هو ربانها.
يلقي بخواطره الوجلة من نافذة القطار عسى الرياح تسافر بها بعيدا عن ذهنه فلا تلبث أن تدور ثانية في فلك أسرته الصغيرة، مذكرة إياه أنه شمسها التي شاءت أم أبت مصدر دفئها، و أن ضياء البدر الناعس أمامه ليس إلا مخزون لفيض ضيائه على كوكبه.
يتذكر تلك الضائقة المادية التي يمر بها و التي فرضت عليه البحث عن رزقه في محافظة أخرى، فيعتصر قلبه غصة بسبب إرباك حياتهم على هذا النحو، و لكن لا يلبث أن يطمئن حين يرى خيوط الشمس و قد أَلقيت على ظلمة الليل كشبكة الصياد تمتد لتحصد الرزق من ظلمات البحر اللجي.
(٤ ) رحيل:
____________
يرتشف فنجان القهوة بيد مرتعشة، تنزل إلى جوفه مرارتها الممزوجة بنكهة بن ماسخ لا ينال منها شيء سوى ذاك الراسب المزعج العالق بحلقه.
أصبح لديه رصيد إضافي من الهموم -التافهة – التي تشغل باله؛ مثل أن يسيطر على ارتعاشة أنامله فلا تخذله بسكب القهوة على ملابسه و كأنه طفل عابث لا يتحكم بأفعاله.
تجرح كبرياءه نظرات العابرين المشفقين علي حالته المتداعية، ما يدعوه أن يضع جهدا مضنيا بالتركيز في تلك الرشفة المزرية لتلك القهوة الماسخة، فيتساءل : هل حقا يستحق أثرها هذا العناء؟
، و لكنه يعلم أنه إنما يتشبث بشبح متعة صاحبت تلك العادة لسنوات طويلة، تماما كما يتشبث بكل ذكرى شاركته فيها زوجته و أم أبنائه.
كانت أمها تجلس على المقعد المقابل له كما تفعل هي اليوم، يتعجب من تشابه ملامح وجهها بأمها! هي نسخة منها في هيئتها.
يحزنه أن إبنته – للأسف- لم ترث من أمها طباعها اللينة، و لكن أنَّى له أن يتذمر و قد كان ضيق خلقها و سرعة جزعها إرثها منه هو؟!
أيحق له أن يتذمر أم لها عليه هذا الحق!
لم يرى جدوى من هذا التفكير العقيم، يشبه تماما قهوته ذات النكهة المزعجة، لا جدوى منها سوى إضافة المحاذير و ظلال التنغيصات المزعجة على بقايا تفكيره المشوش.
ينظر إلى إبنته التي اندمجت مع هاتفها المحمول فبديا و كأنهما جزئين لكيان واحد، تنقر عليه و تبتسم لشاشتها و تتحمس لها في صمت بينما تضع السماعات في أذنيها.
يتذكر سماعات أذنه هو الآخر، فيخلعها و يضعها في حرص في جيب قميصه، فليس لها داع بل هو أفضل بدونها.
يقرر أن يستمع لأحاديث ذهنه المشوش، و يحاول أن يستدعي طيف زوجته من الجنة عساها تربت على كتفيه، أو تعاتبه كعادتها على إغراق ذهنه بالهموم، فتحثه على تحويل بصره لتلك النعم التي أغرق فيها.
تسحبه الذكرى لحالة من الثمالة العذبة، و يشعر بدنوها منه، حيث يكاد يجد ريح عطرها المميز فيرتد بصره له بتمثلها أمامه في هيئة بنتها، و لكن لا يمهله طعم قهوته المر الفرصة للتمتع الخالص بها و يقطع عليه خياله.
يحمله ذلك أن يتمرد على قهوته و يضعها على الرف الجانبي الموازي لنافذة القطار لتبدأ مع هذا التصرف البسيط رحلة -مزرية جديدة- قلقا من سقوط هذا الفنجان اللعين! و هل أجبر نفسه على تجرع مرارتها سوى الخوف من سكبها؟!
يصل القطار أخيرا إلى محطة النهاية، فتهم إبنته لتمسك بيده، بينما هو يحمل جسمه المحني على الانتصاب متحديا تيبس مفاصله و تقعر عموده الفقري و خذلان عضلاته.
تناوله إبنته عصاه ليتوكأ عليها بينما تسنده بشكل إجرائي بحت للوصول إلى باب عربة القطار. ينزل بصعوبة على درج الخروج بمساعدة إبنته و أحد المتعاطفين فيطأ قدميه بجهد كبير على رصيف المحطة.
يمشي خطوات قليلة بعنت و يشعر أن أنفاسه تحتبس بصدره فيتلقف الشهيق بصعوبة و يفاجئه ألم شديد بصدره.
يتشبث بقميص إبنته التي يصيبها الهلع، حيث بدأت قدماه تخوناه و قد جلس على الرصيف بينما جبينه يندي بعرق يتصبب بين حاجبين قد عقدا من الألم، فتصرخ الإبنة بذعر: مالك يا بابا؟ بابا بابا! مالك؟
و الله أنا قلبي كان مش مطمن لمجيتك معايا!!!!
و تستغيث بالمارة بأعلى صوت و قد شعرت بتداعي والدها بين يديها:
حد يلحقنا! دكتور! دكتور!
تمر بضع دقائق قبل أن ينتبه المارة لندائها فيتجمعون في مشهد فوضوي و تتعالى النداءات:
أي دكتور! الراجل بيموت!
يمر طبيب على الرصيف المقابل و يلفت نظره مشهد التكدس، يرهف سمعه فيسمع النداء غير واضح، و لكنه لا يلبث أن يلمح الرجل و زوجته فيستوعب الموقف و يهرع إلى سلم المشاة للوصول إليهم.
يزاحم المارة و جموع المسافرين التى تلاحمت مع الأمتعة و الباعة و العاملين بالمحطة، فيصل أخيرا إلى الرجل.
يحاول أن يستدعي انتباه الرجل في محاولة منه للحفاظ على وعيه، يسأل إبنته التي غرقت في دموعها الآن:
بابا إسمه إيه؟
فترد عليه: يحيى.
فيردف بصوت عال: حاج يحيى! حاج يحيى! إنت سامعنا؟
و لكن روح الرجل تصعد إلى بارئها و قد بصرت وليفها بإنتظارها و كأن ريح عطرها الذي رواده بالقطار لم يكن إلا بشيرا باللقاء.
تعلن صرخة إبنته نهاية عمر الكهل بينما تعلن صفارة المحطة بدء رحلة قطار جديدة.
اترك تعليقاً