لا يُسمن ولا يغني من جوع

لا يُسمن ولا يغني من جوع

بعد يوم طويل جدا من الإنهاك و الكفاح الإنساني، جلست إلى طاولتي وحدي، فلم أجد طبق الفاكهة الذي اعتدت أن يتوسطها.
كان الجوع قد بلغ مني مبلغه و قد أخذ ينهشني بينما يتصاعد زئيره من عرينه ببطني، حيث لم أكن قد تناولت كلمة رطبة واحدة طوال هذا اليوم!

أتوجه إلى الثلاجة البيضاء القديمة ذات الزوايا الصدئة و الملصقات السخيفة، كان أسخف ما فيها أنها مهترئة نسبيا حيث تعرضت لمحاولات متكررة لحكها بالفرشاة و السلك، و لكن الأمر انتهى إلي تحولها من ملصقات التهم الجزافية إلى آثار تلك التهم فبدت و كأنها أشباحها!

نظرت بداخل الثلاجة، و كان المنظر كئيبا، حيت تبعثرت فيها صحون الحوارات البائدة الملآنة ببقايا الوجبات التي كانت -يوما ما- ساخنة و شهية.
جذبت بعض الصحون، حيث لم أجد خيارا أمامي سوى أن أسد رمق جوعي من ما تأوي من طعام.

هذه بواقي شطيرة لحم، كم كانت مشبعة بنكهات الصداقة و ما يعزز طعمها من الود و التفاهم، اليوم أصبح خبزها كأنه قطعة من المطاط، كلما حاولت مضغه شعرت بأن صراع لا نهاية له من الشد و الجذب قد نشب بين فكي!

أجد على أحد الرفوف، طبق من سلاطة الأفكار الذابلة، لا شك أنني كنت قد أعددتها من خضروات الموسم الطازجة، الآن امتزجت ألوانها في حالة بين – بين- ليست بأي حال نضرة و لكنها ليست بالتالفة أيضا!

أرى في أحد زوايا الرف الثاني من الثلاجة قطعة من الكعك الفاخر، كنت قد ابتعت هذه الكعكة من أفخم محال الحلويات، أتذكر أنني دُهشت من ثمنها، و لكنني ما لبثت أن دفعته بطيب خاطر، إكراما لمناسبة الاحتفال بأحد الإنجازات التي اعتبرتها – آنذاك – الأهم على الإطلاق في حياتي!
لم يحضر الاحتفال سوى أمي، و أختي. تناولنا الكعكة و كانت حلاوتها تذوب في فمنا، و تزين أرجاء قلوبنا بألوانها الزاهية.
كانت الكعكة أكبر من شهيتنا و لم يشاطرنا أحد فرحتنا، فتبقت منها تلك القطعة ذات السطح الأبيض المتآكل، العاري من الفاكهة.
اليوم يرتابني الشك في قيمة هذا الإنجاز و دوام وقعه، أشم رائحة مريبة، تشككني أن تلك القطعة المتبقية من حلوى النجاح ربما حمضت قشطتها أو عطن طعمها.

أرى أيضا زجاجة من عصير الذكريات منتهي الصلاحية و قد تخمر، تجرعت منه شربة يسيرة عساي أثبت لنفسي أنه لا زال لذيذا، فأصابني سكر بنشوة خاطفة، خلفها طعم لاذع، لم يلبث أن أشعل حريقا بصدري، إصر ارتجاع مرير لعصارة حاولت هضم تلك الذكريات و فشلت في إتمام إذابتها.

انتشلت من الشطيرة قطع اللحم و خلطتها مع السلطة بعدما انتقيت أفضل خضرواتها حالا، أضفت إليها بعض زيت الزيتون المعتصر من أغصان السلام النفسي، قطعت خبز الشطيرة قطعا و حمصته تحت شواية الإستغناء، سكبت قطرات قليلة من عصير الذكريات المختمر عسى أن تضيف لذعة للسلاطة أستعيض بها عن تلك الليمونة اليابسة بباب الثلاجة.

نزعت عن الكعكة طبقات القشدة المتآكله، و هرستها بالشوكة ثم وضعتها في كأس جميل و زينتها بقطعة من كريز الشغف- الوحيدة التي نجت من طبق كامل قد تعفن عن آخره!

أصبح الآن لدي طبق من السلاطة الفاخرة الشهية المنظر، و كأس من الحلي يضاهي ذاك الذي قد تراه في ثلاجات الفنادق الفارهة.
أبهجتني طلة ذلك العشاء الفخم، فاتخذت مجلسي على طاولتي و وضعته قبيلي ثم شرعت ألتقط له صورة تلو الأخرى لأرفعها تباعا على جميع صفحات حساباتي بوسائل التواصل الإجتماعي و قد حرصت أن أذيل الصور بجمل مبهجة جدا من عينة “دلل نفسك” ، “جائزتي لنفسي”، “لأني أستحق” و شعارات شبيهة أخرى من تلك “الملهمة”، الرنانة.

انتهيت من ذلك و قد حصدت مئات علامات الإعجاب و عشرات من القلوب و عشرات من تعبيرات الدهشة. نظرت إلى طعامي و لكنني لم أشتهيه البتة! على النقيض! كدت أتقيأ كلما حاولت أقنع نفسي بتناوله!!

أكملت السهرة أرد على تعليقات المعجبين بوجبتي الرائعة و أشرح للمتساءلين كيفية إعدادها و قد حجبت – عمدا- مصدر مكوناتها.

حسنا، لم أضطر للكذب بشأن طعمها، فإن أحدا لم يخطر بباله أن يسألني، فالصور تسيل لعاب الناظرين، و لاسيما و قد أبدعت في استخدام الفلاتر التي تطمس عيوبها.

ارتحت من عناء اليوم الطويل، راحة كانت تسري كالخدر في شرياني مع تواتر علامات الإعجاب، ثم سأم الجميع من الصور، و توقفت نقرات الإعجاب، و تذكرت فجأة جوعي.
يبدو أن التفاعل استهلك من طاقتي فأيقظ جوعي الذي تقاقم و توحش فهاج و ابتلعني!
و بالرغم من ذلك ….لم يشبع!

الكاتب

شارك هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *