حافلة عمي كْريمو 2
انطلقتْ الحافلة تسير بهدوء تام، بينما ظل مراد واقفا وقفة بدا فيها غير مرتاح، وهو يستدير برأسه في كل النواحي بضجر، خاطبتهُ ثريا قائلة:
مراد، ما بك؟ ألن تجلس؟
التفت إليها مراد وقال:
لا أجد أي مقعد مناسب، ثم إنها هذه هي المرة الأولى التي أركب فيها حافلة كما تعلمين..
ثم اعتدل في وقفته وفطن إلى شيء ما كان قد نسيه وهو أن لا يغفل عن إظهار غمازته بأن يحافظ على ابتسامته الفريدة التي تضفي على وجهه المحمر دائما وشعره الذهبي لمسة من جمال تلفت انتباه من حوله، راح يحدق في وجه كاتيا وواصل حديثه مع ثريا:
كما تعلمين، قلت أني لم أعتد سوى على ركوب سيارتي مكشوفة السقف لذلك يصعب علي التأقلم على الاكتظاظ في الحافلة..
لم تعره كاتيا أي اهتمام وهي تنظر من النافذة فتضايق وجلس بجانب السائق بعد أن قالت له ثريا:
لا بأس من تجربة بعض الأمور الجديدة، سنستمتع في هذه الرحلة معا كثيرا..
كانت ثريا قد تجاوزت ما رأته هذا الصباح، رشيد ووجهه الغريب وهدوئه المخيف وزال الشحوب من وجهها بعد أن تناست الأمر ولم تشأ أن تشغل نفسها بالتفكير، ظل السائق العجوز يقود الحافلة بهدوء وتركيز لم يخفى على أحد خصوصا مراد الذي ملّ من الجلوس بجانبه فنهض بسرعة وعاد إلى وقفته فالتفت إليه السائق وقال بصوت خافت بطيء:
اجلس، الوقوف هكذا ليس خيارا جيدا..
قال مراد بلباقة:
Non, merci..
فلم يكترث له السائق وعاد إلى هيئته وسكونه، كان عجوزا بقامة قصيرة قصرا ملحوظا وبطنا بارزة يشد عليها بحزام جلدي بني يتلائم ولون القميص والسروال مع ابتسامة ماكرة مستهترة لا تفارق وجهه ذي البشرة اللامعة الخالية من أي أثر للشعر، يمسك على المقود بيدين غليظتين، والغريب أن أصابعه كانت تبدو بلا أظافر ملساء تماما، وهذا ما فطنت إليه كاتيا التي تجلس خلفه، تأملت وجهها في المرآة لثوان كما تفعل عادة ثم أعادتها إلى حقيبتها بخفة وراحت تعدل خصلات من شعرها في غير اكتراث ثم حولت بصرها إلى الأمام فجأة فلمحت يدي السائق الثابتتين في مكانهما، سرت في بدنها قشعريرة مفاجأة وظلت عينيها مفتوحتين في تأمل واستغراب، ثم أشاحت ببصرها وراحت تنظر من النافذة في شرود وقالت تهمس لنفسها:
أنا أعلم، أنا لست على طبيعتي منذ أمس، أتهيأ أشياء وأغضب سريعا وأكسر أغراضا..هذا التوتر، إنه يصنع أشياء مرعبة لا تصدق ولا بد من بعض الاسترخاء..أجل لا بد منه..
في هذه الأثناء كان مراد قد سأم من الوقوف فأخرج سريعا من حقيبته التي على ظهره منديلا ومسح به أحد المقاعد الخلفية ليجلس خشية الغبار الذي سيلوث ملابسه، ثم ارتمى على المقعد في انزعاج، ظل الجميع صامتا إلا رشيد الذي كان يدندن بزهو واستمتاع وهو يصغي لأغاني الراي التي يحبها فيما كان أصيل يجلس في المقدمة منزويا على نفسه وهو يلتهم طعامه في تلذذ، بيده اليمنى يمسك بسندويشة كبيرة الحجم وباليد الأخرى عصير الكوكتال البارد، وبدون تردد انتفضت ثريا من مكانها وقالت بلهجة سريعة:
ما هذا؟ نحن نسير منذ ساعة ونصف ولم نقطع نصف المسافة حتى.
ثم مشت بضع خطوات إلى ناحية السائق وقالت بتذمر:
عمي كْريمو قُد بشكل أسرع قليلا نريد أن نصل قبل الساعة الثانية و..
وقبل أن تواصل حديثها لمحت عداد الحافلة وقد كان متوقفا تماما عن العمل، فاقتربت منه ودققت النظر فيه لتتأكد من صدق ما رأت، أدركت أنه ثابت لا يتحرك فبهتت وجمدت في مكانها وقبل أن تقوى على قول أي شيء للجالسين صاحت من خلفها كاتيا وهي ما تزال تنظر من نافذتها، فانتبه إليها الجميع وقفزوا من أماكنهم وراحوا يطلون من النوافذ بعد أن أشارت إليهم هي بذلك مشدوهة:
انظروا، انظروا..
رأوا حافلة تشبه حافلتهم أو بالأحرى تكاد تكون هي، أجل إنها هي نفسها.. تمرُّ ببطئ وتمهل يركبها أشخاص يشبهونهم إلى حد كبير بل إنهم هم أنفسهم.. فرأوا جميعهم نسخا عنهم يركبون الحافلة المقابلة يقودها السائق العجوز نفسه، فابتسم له العم كريمو بلطف ملوحا له بيده ورد له الآخر الابتسامة ذاتها وحركة اليد ذاتها، فيما صاحت ثريا تشير لشبيهتها في الحافلة المقابلة لهم:
ماذا يحدث؟ من تلك الفتاة؟ كيف انقسمتُ إلى نصفين؟ ماذا يحدث فليجبني أحد حالا..
واستمرت ترتعش في مكانها ذعرا بينما أسقط أصيل طعامه من يده وهو ينظر مبهوتا غير قادر على تغيير موضعه فاندفعت نحوه قطة صغيرة الحجم سوداء اللون تسير بثبات وعينين راكزتين باتجاهه وما إن وصلت إليه حتى حدقت في وجهه مليا ثم انكبت على السندويش تلتهمه بغير مبالاة فلم يزح ببصره عنها مذهولا وأعادت النظر إليه قائلة بسخرية:
ماذا؟ أتريد أن تشاركني لمجتي؟
لم يقوى أصيل على التحمل أكثر فقفز من مكانه متجاوزا إياها وهو يصرخ طالبا النجدة، وسرعان ما مرّت الحافلة حتى ابتعدت تماما لكن رشيد ظل يحدق بها فاستطاع أن يلاحظ ذلك الشخص الذي يشبهه وهو يشير بإصبعه ناحية سماعة أذنه مبتسما ففطن رشيد لذلك والتصق في مقعده وغرق في صمته وعرقه المتصبب، ولحظات حتى انقطعت الموسيقى التي يسمعها وعمّ مكانها هدوء مخيف ثم سمع صوتا حادا مناديا:
رشيد..سنلتقي قريبا..
ولم يكد ينزع السماعات بيدين مرتعدتين حتى سُحبتا من أذنيه بحركة قوية مفاجأة لم يعرف مصدرها..فالتفت الجميع ناحيته بنظرات خائفة فيما ظل هو ساكنا فقد شعر بيدين باردتين تمتدان نحوه، رفعتاه عاليا ف
صار يطفو وكأنه يسبح في الهواء للحظات ثم وبحركة مباغتة وضربة قوية رُفع لأعلى أكثر حتى ارتطم بسقف الحافلة ثم عاد فسقط أرضا واندفع أصيل نحوه يهزه لينهض لكن من دون جدوى فازداد الهلع في الحافلة وامتزج الصراخ بالبكاء فقال السائق بصوته الهادئ المعهود:
رشيد، لطالما أحبَّ الصخب،لا عجب أن رحيلهُ سيكون صاخبا أيضا..
لم يسمعه أحد فصاح أصيل يخاطبهم جميعا:
يجب أن نهدأ ونفكر في حل بدل الصراخ..ربما لم يبقى على وصولنا سوى القليل من الوقت..
انفجرت ثريا في وجهه تقول بلهجة قوية:
ماذا تقول؟ أهذا كل ما تفكر فيه؟ انظر إلى رشيد..إنه واقع أرضا ولا نعلم إذا كان قد مات أم لا..
صاح أصيل هو الآخر:
ما من حل آخر..
عندها قالت كاتيا بصوت مرتعد:
أريد أن أخرج، أريد أن أخرج من هنا الآن..ابتعدوا عن طريقي..
ودون أن تفكر انطلقت بسرعة باكية ناحية باب الحافلة لتفتحه وتفر بنفسها فاصطدمت بشيء ما وشعرت بالتواء في كاحلها جعلها تصيح ألما وتسقط أرضا ولم تكد تنهض حتى سُحبت من شعرها وأعيدت إلى مقعدها كما كانت..فجلست مستسلمة تتطلع حولها في الوجوه بذعر وهي تتحسس رأسها وتقول بصوت عالي ولهجة مهددة:
أحدهم سحبني من شعري، مراد أنت من فعل ذلك أنا متأكدة..
همس حينها السائق بصوت ماكر:
محال، محال أن يفعل مراد هذا بك، إنه يحبك يا كاتيا، يحبك جدا..
قال مراد بصوت غاضب:
ما الذي تقولينه؟ أنا لم أقترب منك أصلا فكيف أسحبكِ بتلك الطريقة المفزعة التي لم تكن عادية أبدا..
انتشر الخوف أكثر ووقف الجميع مشدوهين ينظرون إلى بعضهم البعض وبقيت القطة تدور حولهم وهي تصدر صوت مواء حاد لا يتوقف، ولم يكن بمقدور أحد أن يتمكن من إمساكها وكانت نظراتها ملتصقة بأصيل الذي لم يحرك ساكنا وظل يحدق بها فقفزت إليه وجلست بجانبه على مقعده ترنو إليه وكأنها صديق قديم ثم قالت بصوت رقيق ناعم:
لم أكن أدري قبل هذه اللحظة أن السندويشات شهية إلى هذه الدرجة، معك حق يصعب بسبب هذا أن تتشاركها مع أحدهم..
ولم يوشك أصيل على الانقضاض عليها ليمسكها حتى ركضت واختفت فجأة فلاحظ الجميع هذا المشهد وذهلوا وكان أولهم مراد الذي قال بصوت مرعوب:
لقد رأيتم جميعا هذا..لا أريد أن يظن الجميع بأني أتهيأ أشياء..
أجابته ثريا بصوت متعب:
لقد رأينا ما هو أفظع ولم نتكلم.
كانت جميع نوافذ الحافلة قد أغلقت بإحكام، والباب كذلك ولم يكن من أحد بقادر على الخروج فاكتفوا بالصمت والهمود والتحديق في وجوه بعضهم وكأنهم ينتظرون حدوث أمر ما…
اترك تعليقاً