حافلة عمي كْريمو 3
أكتبُ هذه الرسالة النصية وأنا لا أعرف أين مكاني الآن، يبدو لي المكان كمستشفى لكن على الأرجح أنه ليس كذلك، لقد شهدتُ نهاية أصدقائي المقربين بشجاعة كبيرة، وأنا الذي لم أكن في حياتي يوما شجاعا، رأيتُ العم كريمو أمام ناظري وهو يتلاشى كالغبار بعدما صرخ صرخة مفزعة اهتزت لها الحافلة ثم ضحك وقال أنه سيعود كما اعتاد أن يفعل كل سنة في موسم الصيف.. آمل أن تجدوا مكاني..
أصيل..
ظل الجميع ينتظرون على الحال ذاته ويلتفتون بذعر ناحية أي صوت أو حركة غير مألوفة، وكل منهم يحرص على ألا يصيبه من السوء شيء فيترقبون حولهم ويحاولون إيجاد مخرج بمحاولة تكسير النوافذ وركل الباب، لكن دون جدوى، حتى مراد الذي صرّح لثريا ذات مرة بأنه سيضحي بحياته في سبيل كاتيا اتضح أنه لن يفعل، فقد كان خائفا ومرعوبا وزالت كل نظرات الاشتياق والإعجاب من عينيه وكل تلك المشاعر التي يكنها لكاتيا وكأن قلبه قد طار من صدره وطارت مشاعره معه، وصار لا يرغب في شيء سوى أن ينجو بنفسه في أسرع وقت، حقا إن الحب يصمد أمام أي شيء عدا الخوف.. هكذا قالت ثريا بعجب ممزوج بالمكر وهي تشاهد مراد وهو يركض في كل اتجاه في الحافلة كالمصعوق باحثا عن مخرج فيما كان أنين كاتيا يصدر ضعيفا متواصلا من الألم الذي أصاب كاحلها وأعاقها عن المشي فاستمرت قابعة في مقعدها بدهشة وترقب..
وفي لحظة غير منتظرة توقفت الحافلة والتفت السائق العجوز مبتسما بهدوء إلى الجميع وقال بلهجة ساخرة:
استعدوا، استعدوا..
فحدق أصيل فيه وقال بصوت مرتعد:
ماذا تقصد؟
فلم يجبه بشيء وضحك ضحكة عالية وأعاد وضع يديه على المقود وانطلق بالحافلة بسرعة هائلة أوقعتهم أرضا، فنهضوا يصيحون:
توقف، ماذا تفعل؟ توقف..
وارتفع صوت كاتيا عاليا مبحوحا ليطغى على جميع أصواتهم:
توقف..
فالتفت إليها العم كريمو بنظرة غريبة وقال بنبرة صوت مازحة:
لم أعتد على تلقي الأوامر من أحد.. وما فعلته الآن أثار غضبي لدرجة لا يمكنكِ تصورها.
ثم عاد فاستدار أمامه وواصل القيادة، ولكن هذه المرة بسرعة أكبر ولم تمضي سوى بضع ثوان حتى ارتطمت الحافلة بصخرة كبيرة وانتهى بها الحال أن وقعت في حفرة وامتزج صراخ مراد وأصيل وثريا بضحكات العم كريمو المتقطعة وهم عاجزون عن فعل شيء سوى التحديق في وجوه بعضهم والهلع يسكن أبدانهم وقد بدا أنهم لن يتمكنوا من المقاومة أكثر، قال مراد بصوت مرتجف:
ماذا يجري؟ أين نحن الآن؟
كانت ثريا تطل من زجاج النافذة بيأس وراحت تقول بهدوء:
تعال واكتشف بنفسك..
فاندفع مراد نحوها وأطل على الخارج وقال وهو يتأكد مما رآه:
هناك تراب وأحجار والظلام شديد هنا، أخشى أننا قد وقعنا في..
وقبل أن يكمل حديثه قال أصيل يخاطبه بصوت ضعيف وقلة حيلة:
أجل لقد وقعنا في حفرة ولم يعد أمامنا شيء لنفعله..
حينها لم تتمالك ثريا نفسها وقالت وهي تجهش بالبكاء:
سنتعفن هنا حتما.
ثم قال مراد بغضب:
ما كان يجب أن آتي معكم.. ماذا سأفعل الآن؟
صاحت به ثريا بصوت أعلى:
لستَ وحدك في هذا، جميعنا عالقون.. توقف عن التفكير في نفسك فقط..
وفجأة زجرهم صوت العم كريمو وهو ينادي:
أنتم، توقفوا، توقفوا عن الشجار..
ثم سرعان ما انخفض صوته وعاد إلى هدوئه ليقول:
إنه حادث، حادث بسيط فقط، لماذا كل هذا القلق والخوف والغضب.. ألم تسمعوا عن الحوادث قط؟ الحياة مليئة بالحوادث لذلك استرخوا واهدؤوا فلم يبقى أمامنا الكثير..
لم يكن لأحد أن يصغي للعم كريمو فحديثه هذا لم يكن ليغير شيئا سوى أن يربكهم أكثر، لكن العجوز استمر يتحدث وهو ما يزال ملتصقا بمقعده ينظر إلى الأمام في ثبات مريب أشبه بكتلة جامدة، كان يبتسم بثقة وهو يخاطبهم جميعا دون أن يلتفت إليهم:
لا بد وأن أحدا منكم قد سمع بالقصة التي جرت قبل سنوات والتي مازال الناس يذكرونها لحد الآن، وبما أننا جالسون هكذا دون أن نفعل شيئا فأنا أعتقد أن في هذا فرصة جميلة لأحكي لكم ما حصل وقتذاك..
التفتت ثريا إلى أصيل ومراد وقالت بصوت خائف:
مهلا، ألم يرى أي منكما كاتيا؟
استدار أصيل برأسه وقال:
كانت هناك تجلس على ذلك المقعد..
ثم تبادلوا جميعا نظرات القلق والحيرة وهم يبحثون بين المقاعد حتى جاءهم صوت من الخلف يقول بثقل:
انظرا هنا، انظرا..
فالتفتا فإذا بمراد واقف وهو ينظر بدهشة لكن أمرا واحدا فقط لم يستطيعا استيعابه.. كانت هيئة مراد قد تغيرت كليا وهو يقف مرتديا بدلة سوداء أنيقة وبيده يحمل باقة زهور بيضاء ويتطلع بعينيه إلى كاتيا التي نهضت من المقعد الخلفي الذي كانت تجلس عليه، أقبلت إليه وهي تعرج بفستان أبيض وطرحة تلقي بها فوق شعرها المسرّح بعناية، راحت تسير ببطء متجهة إلى مراد وهي تتطلع إليه بشرود بعينيها الواسعتين وهما تلمعان ببريق مخيف دون أن تتوقف عن الابتسام بينما التصقت عيني مراد بها ومشى إليها ببطئ مبتسما، وقف أصيل وثريا يتفرجان بذهول وغير تصديق ولم يقوى أي منهما على قول كلمة للآخر، فيما واصل مراد السير بخطوات ثابتة لكن ما لاحظته ثريا عليه جعلها تصرخ وتتراجع إلى الوراء مندهشة، رأت قدماه وهما تبدوان بحجم أكبر، كانتا لا تتوقفان عن النمو حتى تضخمتا بالكامل وصار يجرهما بثقل ملحوظ، قال أصيل بعدما رأى ما حدث وتراجع لينضم إلى ثريا:
ما الذي يحصل هنا؟ ما هذا الذي أراه؟
لكن مراد تسمر في مكانه فجأة ولم يتحرك وكأن قدماه التصقتا في مكانهما ولم يزح بنظره نحو كاتيا التي فرّت منه فور ما لمحت قدميه بشكلهما العجيب وهي لا تزال في شرودها وقد ازداد وجهها شحوبا، فدوّت بصرخة قوية في وجه الجميع وتراجعت مسرعة إلى مقعدها الخلفي وانزوت على نفسها ثم انطلقت في ضحك متواصل، بينما لم يتوقف العم كريمو عن سرد حكاية الحادث الذي يعرفه دون أن يهتم لسماعه أحد:
في يوم صيفي هادئ مشمس وجميل، انطلق الأب مع أولاده الصغار في رحلة، تماما كما وعدهم، وكم كانوا في غاية السعادة بذلك اليوم، ركبوا جميعا السيارة وانطلق بهم الأب واستمر يقود لدقائق حتى تذكر شيئا وتوقف في الطريق، لم يكن البيت ببعيد فنزل ومشى إليه ليحضر شيئا ويعود، دخل الحديقة وقبل أن يقترب من الباب ليدخل، جذبه همس خفيف عند النافذة فقرب رأسه إليها وراح يسمع، كان ذلك صوت زوجته وهي على الهاتف بصوتها الرقيق والناعم والذي لا يمر عليه يوم دون أن يسمعه فيهبه من السعادة ما يملأ قلبه وحياته، كانت تتحدث على الهاتف وتقول ضاحكة:
كما وعدتك تماما، أخبرته أني سألحق به والأولاد بعد ساعات وفي الحقيقة أنا لن أفعل، أنتظرك بعد دقائق فلا تتأخر..
لم يقوى على سماع المزيد فقد تبين له كل شيء، فقد أعصابه ولم يعرف ما الذي يجدر به أن يفعله فلم يشعر إلا وهو يعود أدراجه راكضا إلى سيارته وترامت إليه أصوات ضحكات الأولاد فلما وصل إليهم سار ببطئ وركب وانطلق دون أن يقول شيئا، لقد كان يهمس لنفسه: أنتِ لا تحتاجيننا في حياتك بعد الآن، لا تحتاجيننا بعد الآن، ودون تفكير انطلق يقود بسرعة وغضب أعماه عن كل شيء حتى انتهى به الحال وأولاده أن وقعوا في حفرة وعُثر عليهم في اليوم التالي جثثا هامدة، الحفرة نفسها التي وقعنا فيها نحن قبل قليل…أتذكر هذا وكأني أراه يحدث للتو أمامي من جديد.. أجل إنه يحدث كل يوم من جديد.. أنا هو ذلك الأب الذي لم يتوقع الخيانة يوما.. وأولئك هم أولادي.. رويدا وشمس وسامي، كانوا قبل ذلك سعداء جدا وكنت كذلك أيضا.. ولهذا فالسعادة صارت تزعجني جدا ولا أستلطفها.. إطلاقا.. ولذلك فأنا آتي إلى المدينة بحافلتي هذه وأسير باحثا عن وجوه سعيدة لآخذها في رحلة شيقة..تماما كما فعلتُ معكم أنتم.. ثريا، مراد أصيل رشيد وكاتيا، هل كانت الرحلة معي شيقة؟
كانت كاتيا تجلس في مقعدها متجمدة بعينين مفتوحتين تضم ذراعيها إلى ركبتيها متكورة على نفسها بينما مراد ظل واقفا كتمثال لا يتحرك حتى دفعته ثريا تهزه ليستيقظ فسقط وارتطم بأرضية الحافلة وجمد في مكانه، فخانتها قوتها ولم تستطع الهرب وهي التي تأكد لديها أنه ما من مخرج من هنا ودون أن تحس بشيء يدنو منها امتدت إليها من الفراغ يد صلبة جذبت ظفيرتيها الطويلتين وراحت تسحبها وتسحبها ثم رفعتها عاليا وصوبت بها ناحية أحد النوافذ بضربة قاسية حتى ارتطمت بالزجاج ثم وقعت في همود.. لم يبقى سوى أصيل وهو ينظر إلى أصدقائه أمامه في استسلام وعجز فاقترب منه العم كريمو ينظر إليه بلطف وشفقة وهو يقول:
أصيل، كنتُ أعلم منذ البداية أني سأتعب معك كثيرا.. ماذا تقترح؟ أعلقك على السقف أم أقحم رأسك في النافذة أم أرمي بك من الباب.. أعلم أنها حلول بدائية ومكررة لكن على الأقل فهي نافعة وهذا ما أريده..
لم يقل أصيل شيئا وبقي على حاله ينتظر نهايته صامتا فلاحظ العم كريمو سكونه الذي لم يرق له فقال متأففا:
حسنا.. تريد أن تترك الخيار لي أنا.. إنك تغرقني بكرمك.. أعلم كم أنه يصعب التفكير في مواقف كهذه لذلك لا أريد أن أزعجك أكثر..
لم يكن أصيل قادرا على فعل شيء سوى البقاء صامتا بينما العرق ينهمر من جبينه ولم يعد باستطاعته التحكم في جسمه الذي صار يتعرق ويرتعد وهو يقاوم ألا يقع، وقبل أن يقترب منه العم كريمو أكثر بخطواته المتهملة وهو يجرّ قدميه ناحيته، أغلق عينيه ثم أحس بيده تلامس كتفه وأحكم قبضته عليه فلم يستطع أن يتوقع ماذا سيحدث بعد ذلك فاستسلم منتظرا، ثم فجأة عم الهدوء ففتح عينيه بصعوبة بالغة فإذا به يرى العم كريمو قد تراجع إلى الخلف وتبخر في الهواء فاختفى.. وسحب أصيل نفسا طويلا وسقط سقطة قوية أحدثت صوتا..
اترك تعليقاً