عدت طفلة

اكتسبت بعض الوزن من التهام مشاعر الحيرة و القلق عالية الدسم،
تلك التي لا تكتفي بإضافة الكيلوجرامات بل أيضا تبدع في تضييق شرايين القلب و الرئة .
لبست كعب النجاح العالي الذي يمنحني أيضا عدة سنتيمترات فتزيدني مهابة و خيلاء ،
تبرجت بألوان الحياة النضرة التي رسمت بها على وجهي الابتسامة و النظرة الثاقبة و طمست معالم التوتر و الارتباك بكل براعة،
رفعت خصلات شعري التي شيبتها الخبرات و المسؤوليات،
وضعت نظارة الحكمة و المعرفة ذات الإطار الوقور،
و تعطرت بعطر الثقة الفواح الباهظ الثمن الذي اختلط فيه شذى الزهور البرية و المسك الطاهر و عبق غامض من خشب شجرة الخلد و جذع نخلة مريم.
ثم شرعت في طريقي إليه… و كلي يقين أنني قد كبرت
… و أنني أستطيع أن أقنعه بقدراتي
…و أن أتولى أمره
…و أن أحمل عنه همه
…و أن أخفف آلامه
…و أن أحل مشاكله
… و أن أرتب له غرف عقله التي عمت بها الفوضى
… و أن أزيل الأتربة عن أفكاره من جديد
… و أن أسند ظهره الذي -سمعت- قد مال و هو ما دفعني اليوم أن أشد رحلي إليه دون أن أمهل عقلي أي فرصة للتفاوض على تنظيم الوقت!
.. كنت في أتم استعدادي و يقيني لا يهزم بأنني “قدها و قدود”.
ركبت سيارتي، انتصبت في جلستي و تنهدت بنفس عميق عبأت به صدري بكل ما قد تتطلبه مهمتي المقبلة من طاقة.
أدرت محرك السيارة و كعادتي أدرت الموسيقى التي أسمعها كي تمتص مني كل الأفكار ناشزة النغمات،
… و مضيت في الطريق إليه و قد صغت كل الكلمات المحكمة، الملهمة و استحضرت كل آيات الهمة، آن دوري و أنا على أهبة الاستعداد.
وصلت، و قد كان في انتظاري، لا أعلم إن كان دوما في انتظاري أم أنه بانتظاري اليوم فقط كونه يعلم علم اليقين أن نداءً من عمق قلبه لا يخطئ أذناي!

استجمعت قواي من جديد، لملمت أشتاتي التي تبعثرت كعقد فرطت حباته بمجرد أن وقعت عيناي عليه، كنت كمن يحصر ماءً متدفقا.
… نهشت من وزني مشاعر القلق و الحيرة فصرت كما الريشة لا وزن لها تذروني الرياح أين تشاء.
و ..انكسر كعب الخيلاء العالي
و .. سالت مساحيق الحياة فتركت بسمتي باهتة و عيني زائغتين و قد رسمت على ملامحي مظاهر الضعف بكل ضراعة
و.. تهشمت النظارة و اختفت المعرفة و الحكمة و كأنهما سكنتا عدستيها.
و.. انسدلت خصلات شعري و قد خضبتها ألوان الطفولة
و …تبخر عطر الثقة
… و عدت طفلة

وجدتني أنتظر منه أن يخبرني -هو- ما علي أن أفعله- معه- و أنتظر منه أن يرشدني -هو- كيف أفعله -معه- و لكن أيا من ذلك لم يحدث-فقط- نظر إلي!

و انتظرت من نفسي -أنا- ادراك – ما علي أن أفعله- معه و أنتظرت من نفسي -أنا – الوعي -لكيفية أن أفعله – و لكن أيا من ذلك لم يحدث- فقط- نظرت إليه!

خذلني دوري الذي ظننت واهمة إنني “قده و قدود”
فأما كلماتي المحكمة الصياغة فقد اختبأت في حلقي تماما كما كنت أختبئ منه-طفلة- إذا حان وقت النوم .
و أما كلماتي الملهمة المعاني فقد نامت بجوفي كما كنت انام -طفلة- بين أكناف ذراعيه بعد مراوغتي له.

و جلسنا هكذا في صمت لا تخطئ أذناي فيه نداءً خفيا يبثه لي من أعماق قلبه و لا تخطئ عيناه أيضا ما تبثه له نظراتي من كلمات محكمة الصياغة، ملهمة المعاني!

الكاتب

شارك هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *