حِكاية الشّيخ عِبادَة

حِكاية الشّيخ عِبادَة

كُنت بَنهج من الجَري، مُش عارف إيه سَبب إنّي أجري في الضَّلمَة دي، القبور على يميني وشمالي، وسامِع صوت من ورايا كأنَّ حَد بيجَرجَر جنزير وراه على الأرض.
آخر حاجة فاكرها إني كُنت بزور قَبر جدّي، ورغم إنّ أبويا مات بعده بسنين طويلة واندَفن في نفس القَبر، لكن مكُنتش عارف ليه جدّي بالذّات، الوقت اتأخّر عليّا لكنّي محبّتش أمشي، كُنت عاوِز أقعُد هِنا أطول وقت، لكن مكُنتش أتصوّر إني أتحَط في موقف زي دَه، الدُّنيا بَقِت كُحل، السما مَكَنش فيها نجوم ولا قَمر، زي ماتكون اتحوّلِت لحِتّة قُماشة سودَة.
إحساس مُخيف ومفاجئ خلَّاني عاوز أهرب من المقابر، بَس لَقيت الشوارع كلّها مقفولة، كُنت بَجري مِن هنا لِهِنا وفي النهاية ألاقي الشارع مقفول بقَبر، والغريبة إن لازم القَبر دَه يكون مَفتوح، كُنت بحِس إنه عاوز يبلَعني، وساعتها كُنت بجري في اتجاه تاني كأنّي بهرب منّه، كل ده وصوت الجَنزير كان ورايا وقريّب منّي جدًا، وبرَغم كل محاولاتي عشان أهرب، لقيت إيد ضوافِرها طويلة ولونها أحمر بتزُقِّني جوّه القَبر المَفتوح.
*
البِداية كانت من هِنا، لمّا لقيت نفسي صاحي من أسوأ كابوس شوفته في حياتي، كان إحساسي زي اللي دخل غيبوبة وافتكروه مات، لكنّه قام فجأة لقى نفسه في القَبر، الدُّنيا ضلمة من حواليه، رغبته في الحياة خلَّته يصرُخ عشان حَد ينقذه، ولأن لسّه في عُمره باقي خَرَج في اللحظة الأخيرة.
دَه كان حالي بَعد الكابوس، إحساسي فعلًا لمّا صحيت لقيت نفسي على سريري إنّي اندَفنت بالحيا وخرجت في آخر لحظة، كُنت بَبُص حواليّا عشان أتأكّد إنّي موجود في أوضتي، لقيت “نوال” مراتي جَنبي رايحة في سابِع نومة، لمّا بصّيت ناحية الشبّاك لقيت الدُّنيا لسّه ليل، وطبيعي إن دَه الوَقت اللي أصلًا بقوم فيه، عشان أروح الغيط أشوف شُغلي، ولمّا بدأت أتحرَّك من السرير لقيت مراتي بتقولّي:
-أنت صحيت يا “عِبادة”؟
قولتلها وأنا بحاول أطرُد الخوف اللي مكلبِش في صوتي:
-الفَجر قرّب يادوب ألحَق أنزِل الغيط.
اتوضّيت وصلّيت ركعتين وغيّرت هدومي وخرجت، فَتحت باب الزّريبة اللي كان جنب باب الدار من برّه، طلَّعت الحمار وسَحبت الجاموستين ورايا وطلعت على الغيط، الدُّنيا كانت لسّه ليل ومحدّش لسّه طلع من داره، مشيت في الطريق الوحيد اللي بيوصّل للغيطان، الترعة كانت على يميني، الدُّنيا ساكتة والجَو كَاتِم، مفيش غير صوت الضفادع اللي بسمعه من وقت للتاني، وصوت خطوات الحمار اللي كان ماشي على مهله.
لكن في نُص الطريق عند حوض المايّه القديم؛ لقيت الحمار وقف فجأة، حاولت معاه عشان يكمّل لكنه كان متربِس دماغه، حُمار بقى، ولمّا غُلُبت فيه سيبته على راحته، وساعتها لقيته بينزِل التّرعة، قولت أكيد مَكَنش عاوز يكمّل الطريق لأنه عطشان، نزِلت من فوقه عشان ينزل مُنحدر الترعة براحته، لكن كُنت ماسك اللجام بتاعه، وقفت جَنبه لحد ما يخلَّص شُرب، كان بيشرب وكأنّه مَدَاقش المايّه من شَهر المَركوب، رغم إنّي سايِب المايّه قدّامه طول الليل، في الوقت دَه بصّيت للترعة اللي المايّه فيها هادية مُش بتتحرَّك، وساعتها شوفت صورتي معكوسة عليها، مُش دي المُشكلة، الغريبة إن كان في صورة حد تاني معكوسة جَنب صورتي، كان خيال حد جَنبي لكن مكُنتش شايف هو مين.
بمجرَّد ما لمحت الخيال لقيت الحُمار بينهَّق بصوت مُخيف، زي ما يكون اتفَزع فجأة وساب المايّه وطلع يجري، ومن كُتر ما كان مفزوع معرفتِش أتحكّم في اللجام بتاعه، لدرجة إنه فَلَت من إيدي، ساعتها حسّيت إنه شايف اللي واقِف جَنبي، وإن في حاجة مُش كويّسة في المكان، طلعت أجري من الترعة وأنا بقول بصوت عالي: أعوذ بالله من الشيطان، ولمّا بقيت على الطريق لقيت الحمار لسّه بيجري والجاموستين وراه، قولت أكيد بيهربوا من حاجة أنا مُش شايفها، مفكّرتش كتير، لقيت نفسي بَجري بكل قوّتي عشان أحصَّلهم، وبَعد ما عدّينا المنطقة دي لقيتهم رجعوا لطبيعتهم.
كُنت خلاص قرَّبت أوصل الغيط، أكتر حاجة فكَّرت فيها إنّي طول عمري رايح جاي على الطريق دَه، وأوّل مرَّة تحصل حاجة زي دي، مَعرفش إيه اللي جَد أو إيه اللي حَصل يخلّي حاجة زي دي تحصل، دا حتى مَسمعناش من أي حَد إن حصلت معاه أي حاجة غريبة على الطريق، دا غير إنّي مقتنع إن حتى لو حد قال حاجة من دي؛ هتكون يادوب مجرّد حواديت يخوّفوا بها العيال.
إحنا ياما سمعنا حكاوي عن الغيطان ، آخرها كان مع أبويا قبل ما يموت، بَس كلّه في رأيي مجرَد كلام، ولو صدّقنا في كل اللي بنسمعه هَنسيب أشغالنا وهَنجري ورا الحكايات، بقيت أصبّر نفسي بإن دي تخاريف من الكابوس اللي شوفته قبل ما أطلع من الدار، ولمّا وصلت الغيط دخَّلت الجاموستين والحمار في الجُرن، وقَلعت جلَّابيتي وبقيت بالصديري، وشمَّرت البنطلون عشان أنزِل أفتَح للمايّه تدخل تروي الزَّرعة، مشيت على الجِسر لحد ما وصلت للمكان اللي هفتح للمايّه منّه، ونزلت على رُكبي وقولت: يا هادي، بقيت أبعِد الطين بإيدي عشان المايّه تدخل للأرض، لكن معرفش ازّاي لقيت الحُمار ورايا!
هو في العادي إنّي حتى لو سايب الحُمار في الجُرن من غير ما أربُطه عُمره ما يمشي لوحده، لكن أنا متأكّد إنّي رابطه، بَس يمكن هو لسّه خايف من اللي حصل وحاول يهرب وفَكّ الرُّباط، مكمّلتش فَتح المايّه، قولت أودّيه الجُرن وأرجَع أكمّل، سَحبتُه ورايا ومشيت، ولمّا وصلت للجُرن اتفاجأت بالحمار مربوط في مكانه، دا كان قاعد في الأرض ونايم على جَنبه كمان، حسّيت إن جسمي تلِّج ورِجلي مَبقِتش شيلاني، التَفتت ورايا للحُمار اللي ساحبه في إيدي، واتفاجأت إن الحَبل اللي كُنت بَسحبه منّه فاضي مَفيهوش حاجة!
جريت على الجُرن وأنا بقول في سرّي:
-إيه الليلة الكوبيا دي؟
فضِلت قاعد في الجُرن خايف أخرج، مكُنتش بعمل حاجة غير إنّي بَستعيذ بالله وبقرأ في المعوذتين، كُنت بقول لنفسي إن لو حاجة جَت في المكان أنا مش شايفها الحُمار هَيحس بِها، وساعتها هَعرف، ورجعت قولت في سرّي أنت هتصدّق في التخاريف ولا إيه يا “عِبادَة”! دي هلاوس من الكابوس، لكن كُنت مكمّل في قراية القرآن والدُّنيا هادية، لحد ما النهار بدأ يِشقشق والرِّجل بدأت تيجي على الغيطان، في الوَقت ده خَرجت من الجُرن عشان أكمّل اللي كُنت بعمله، لكن اتفاجأت بحاجة غريبة، الحَبل اللي كُنت ساحِب به الحمار ورَميته من إيدي وأنا بجري على الجُرن كان لسّه في مكانه، لكنه مَكَنش حَبل، دي كانت خُصلة شَعر مبرومة على بعضها وطويلة، تقريبًا مَشوفتش في الطول دَه قبل كِدَه!
لأوّل مرَّة أكون عايز أهرب من الغيط، فتَحت للمايّه ورجِعت على الجُرن أخدت الحُمار والجاموستين ومشيت، الناس كانت مستغرباني عشان راجِع بدري، كانوا هُمّا رايحين وأنا مروَّح، ولمّا كان حَد بيسألني كُنت بَتحَجّج إنّي تعبان، لحد ما وصلت الدار، كانت “نوال” قدّام الفُرن بتِخبِز شويّة عيش، أوّل ما شافتني استَغرَبت وقالتلي:
-مالك يا راجِل إيه اللي رجَّعك دلوقت؟
نَفضت ديل جلَّابيتي وقعدت على الأرض وسنَدت ضَهري للحيط وقولتلها:
-مَفيش تَعبان شويّة.
-كفّى الله الشر إيه اللي تاعبك؟
مكُنتِش عايز أقول حاجة من اللي حصلت، ودَه اللي خلَّاني قولتلها:
-عاوز أرتاح شويّة.
-طيّب مُش هَتفطَر، دا أنا كُنت بخبِز رغيفين وجيّالك على الغيط.
-لأ ماليش نِفس آكل.
دخلت الأوضة ومدّدت على السرير، كُنت بفكّر في الكَركَبة اللي مخلَّتش اليوم يكمل، ياترى إيه سَبب اللي شوفته؟
عيني بدأت تغمّض، وعشان كُنت بهرب من التفكير سيبت نفسي للنوم، ماهو النوم راحة زي ما بيقولوا، لكن ياريتني ما عملت كِدَه، أنا لقيت نفسي من تاني بَجري بين القبور في الضلمة، وصوت الجَنزير ورايا.
صحيت مفزوع، وزي ما سمِعت إن الحِلم لمّا يتكرَّر بنفس تفاصيله أكتر من مرَّة مَبتكُنش صدفة، دي بتكون رسالة.
بقيت رايح جاي في الأوضة بفكّر في الرسالة اللي الحِلم يقصدها، هو ممكن لمّا أحلم إنّي بَجري في المقابِر بالليل معناها إنّي هموت قريّب، لكن الموت في عِلم الغيب محدّش بيعرف إن كان قرَّب ولا لسّه، وساعتها افتَكرت كلام سمعته بالصدفة من حد كُنت بتكلّم معاه، لمّا قالّي إن اللي بيحلم إنه بيجري بين قبور دَه مُصاب بسِحر مقابر، عَمل سُفلي يعني مدفون في قَبر، لكن رغم إنّنا في أرياف مكُنتش مقتنع بكل اللي بيتقال أو الناس بتعتقد فيه.
خرجت بعد ما أكلت لقمة مع “نوال” عشان ارتاح من زنّها وروحت قعدت على القهوة، ماهو اليوم هيكون طويل، لكن كًنت سرحان في دُنيا تانية، مَنتبهتش لكوبّاية الشاي اللي حطّها قدّامي الواد “بُرعي” القهوجي غير لمّا قالّي:
_الشاي قرَّب يبرَد يا عم “عِبادة”.
لقيتني بقول في نفسي:
_جتك نيلة في صوتك اللي زي صفّارة الضُفدع.
وبعدها قولت بصوت عالي:
_متخافش ياخويا هحاسِب عليها.
الوقت أخدني، لحد ما لقيت نفسي شارب يمكن ٨ شاي، والعَصر قرَّب، ولقيت نفسي بندَه على القهوجي بصوت عالي وبقولّه:
-واد يا “بُرعي”.
-نعم يا عَم “عِبادة”.
-مَشوفتِش عمّك “زكريا”؟
-مَجاش القهوة من يومين، شَكله تعبان.
-تَعب لمّا ياخدَك يا بعيد.
-مقبولة منّك، أنت عارف إنّه مزجانجي، يوم ييجي واتنين لأ، مُمكن تلاقيه جاي دلوقت، ولا تِعلَم.
المَلل بدأ يقتِلني، قرَّرت أحاسِب على الشاي وأقوم، لكن رجعت قعدت في مكاني من تاني لمّا لمَحت “زكريا” جاي من بعيد، ولمّا وصل القَهوة وسلّم على كل اللي قاعدين زي عوايده نَدهت عليه، سَحَب الكُرسي اللي جَنبي وقَعد وقالّي:
-مالك يا “عِبادة”؟ شَكلك متغيّر هو في حاجة؟
-أنا في كابوس من قبل الفَجر.
-خير اللهم اجعله خير، إيه الحكاية؟
-شوفت نَفسي بجري بين مقابر، الدُّنيا ضَلمة كُحل ومكُنتش قادِر آخد نَفسي، كنت زي ما يكون حد بيجري ورايا وبيجرجر وراه جنزير، قومت مفزوع وقولت مجرّد كابوس، خرجت من الدار وروحت الأرض، الحمارة تربِست دماغها ووقفِت عند الحوض القديم اللي في الطريق، ونزلِت تشرب من التّرعة، نزلت من عليها عشان تشرب وهي مرتاحة واستنّيت جنبها، لقيت صورتي معكوسة على المايّه وفي صورة حد جنبي.
-حد مين؟
-مُش عارف، الملامح مكَنِتش واضحة، أوّل ما لمحت صورته الحمار والبهيمتين اتفزعوا، كأنّهم حسّوا بحاجة في المكان، طلعوا يجروا وطلعت أجري وراهم، ولمّا وصلنا الغيط وروحت افتح للمايّه لقيت الحمار ورايا، ولمّا سحبته عشان أرجّعه الجُرن لقيته مربوط مكانه والحمار اللي سَاحبُه ورايا فَص ملح وداب، والحَبل كان في إيدي فاضي، رميته ودخلت الجُرن للصبح، ولمّا خرجت لقيت الحَبل متحوّل لخُصلة شَعر طويلة.
-أعوذ بالله من الشيطان، أوّل مرّة يحصلّك كِدَه؟
-أيون أوّل مرّة، لدرجة إنّي متلخبَط ومُش على بعضي.
-مُش يمكِن طِلعلَك جنّيّة ولا مارِد ولا النّدّاهة، الغيطان بالليل ياما فيها حكايات وحاجات تشيّب الراس.
-أنا عمري ما صدّقت في الكلام ده، وبعدين إحنا طول عُمرنا رايحين جايين، مَبنسمعش عن المارِد والنّدّاهة غير في الحكاوي وبَس.
-ماهي الحكاوي دي مُش من فراغ، بنفكّرها مجرّد قصص، ومُش بنصدّقها غير لما بتحصل معانا، ولا نسيت اللي حصل لأبوك؟
-أنت تُقصد إيه؟
-أقصُد إن الطريق فيه حاجة، وأنت فيك حاجة خلَّتك تِحس بوجودها.
-والحاجة دي ظهرت فجأة كِدَه لمّا تمّيت 40 سنة؟
-ليه لأ؟ كل حاجة بتحصل في الميعاد اللي مكتوبلها تحصل فيه.
-وهو أنا بحكيلك عشان تقولّي الكلمتين دول؟
-أنا شايف إنك تتوضّا وتصلّي قبل ما تطلع الغيط.
-ما أنا كُنت متوضّي ومصلّي.
-حل مؤّقت، ولو اتكرَّر اللي حصل نشوف هنعمل إيه.
-ماهو لمّا رجِعت من الغيط حاولت أريّح جسمي شويّة، ولمّا عيني غمضت الكابوس اتكرَّر تاني.
-مُش يَمكِن تكون خطّيت حاجة مش بتاعتك أو اتلَبَست.
-تُقصد إيه بكلامك ده؟
-يعني يكون حَد راشِش حاجة لِحد وأنت خطّيت من عليها.
-تاني هتجيبلي سيرة الكلام ده؟! وبعدين إيه اتلَبَست دي؟
-أنت لمّا شوفت نَفسك في المقابِر اتفاجأت بنفسك هناك ولا كُنت رايِح تعمل حاجة؟
-أوّل الحِلم كان بادئ بأنّي بَزور جدّي الله يرحمه.
-جدّك اللي أنت مَشوفتوش أصلًا.
-أنت بتتريَق؟
-مُش بتريق ولا حاجة، بَس إيه فكّرك به خلَّاك تحلم أنك بتزوره؟ دا أبوك الله يرحمه مات من 25 سنة واندَفن معاه في نفس التُّربة، كان أولى تِحلم بأبوك.
-هو الواحد بيختار الحاجة اللي بتحصل في الحَلم يعني؟ وبعدين أنت عارف إنّ أبويا قاطِعنا كلّنا قبل ما يموت، وإحنا كمان كُنا مقاطعينه.
-مُش عارف بقى، بَس أكيد في حاجة ماهو مُش معقول كل دَه بيحصل صدفة.
-تِفتِكر تفسير دَه إيه؟
ولقيته بيشدّني من إيدي وبيقولّي:
-قوم بينا.
-على فين؟
-هَنروح المقابر.
حسّيت جِسمي اتلبّش في بعضه وقولتله:
-أنت بتهزّر يا “زكريا”؟ بقولك اللي حصل معايا تقولّي نروح المقابر.
-خايف من إيه ما أنا معاك؟
مُش عارف ليه كُنت زي المجذوب، مشيت معاه زي ما يكون واحد كبير واخِد طِفل من إيده، المقابر كانت في آخر البلد، كُنت طول الطريق بفكّر هو عاوزنا نروح هناك ليه، تفكيري فضِل يودّي ويجيب لحد ما لقينا نفسنا قدّام قَبر جدّي، واللي هو قَبر أبويا برضو، وساعتها لقيته ضامم كفوفه قدّام وشّه وبيقرأ الفاتحة، ضمّيت كفوفي وقرّبتهم من وشّي وبدأت أقرأ، لكن مُش عارف ليه لقيتني بقرّب من القَبر، أخدت خطوتين لِقُدّام، ولمّا انتهيت من قراءة الفاتحة حسّيت بحركة ورايا، صوت حد ماشي جّنبي، بصّيت عشان أشوف “زكريا” بيعمل إيه، لكن اتفاجأت إنه مش موجود وصوت الخطوات مكمّل عادي، الأغرب من كِدَه إن صوت الجَنزير ظَهر، كُنت شايف في الأرض خط بيترسم قدّامي مكان ما الجَنزير بيتحرّك، لكن مكُنتش شايف الجَنزير نفسه، من كُتر الخوف اللي كُنت فيه لَعنت نفسي إني سمعت كلامه وجيت معاه، حاولت أهرب ومفكّرتش هو ممكن يكون راح فين، لكن اللي شوفته في الكابوس بيتكرّر دلوقت وأنا صاحي، وأنا من ساعة ما قومت مفزوع من الكابوس مكُنتش عارف أتحكّم في تصرّفاتي، جريت من المكان عشان أطلع من المقابر، لكن الشارع كان مقفول من الناحيتين، الوقت فات وأنا مَحبوس، صوت الجنزير موجود ومكان ما بيتجرجر بيترسم خط في التراب، الليل بدأ يدخُل، كل ما الوقت كان بيفوت قلبي بيتقِبِض أكتر، ولمّا فقدت الأمل إني أخرج قعدت في الأرض، الدُّنيا ضلِّمِت ومبقِتش شايف قدّامي كويّس، وزي ما تكون الدنيا اتملَت ضباب وظهر قدّامي حَد، مكَنش باين هو مين، في الأوّل افتَكرته “زكريا”، لكن لمّا دقّقت لقيت إن اللي شايفها قدّامي دي رِجلين مِعيز، بَعدَها ظهرت قدّامي إيد بتحاول تقرّب من وشِّي، كانت ضوافرها طويلة ولونها أحمر، بدأت أزحَف وأنا قاعد في الأرض عشان أهرَب منها، لكن فجأة إيد مسكتني من كِتفي، حسّيت وقتها إنّي اتكَهرَبت، لكن سمعت صوت بيقول:
-يا “عِبادة”، قوم يا “عِبادة”.
كان صوت “زكريا”، اللي بمجرّد ما سمِعته لقيت نفسي قاعِد في الأرض قدّام القَبر والنهار كان لسّه طالع، بصّيت حواليّا وأنا مذهول، بَلعت ريقي وحاولت أتكلّم، لساني كان زي الخَشب بيتحرّك بالعافية، قولتله بصوت مَهزوز:
-كُنت فين يا “زكريا”؟
-أنا جَنبك من ساعة ما وصلنا بَس أنت اللي مُش على بَعضك، عمّال تتلفّت يمين وشمال، قعدت في الأرض تزحف وبدأت تُصرخ، مالك فيك إيه؟
كُنت بتلفّت حوالين نفسي زي ما أكون في مكان غريب عليّا وقولتله:
-الكابوس اتكرَّر معايا تاني، أنا شوفت كلّ اللي حصل معايا دلوقت.
-يا مُثبّت العقل والدين، مالك بقيت بتخرَّف كِدَه أنت شارِب حاجة ولا إيه؟ ما أنا معاك أهو ومفيش أي حاجة.
-أقسِملَك بالله شوفت اللي حلِمت به، وشوفت قدّامي حَد برِجلين معيز.
-بقولّك إيه أنا جِسمي بدأ يتلبّش، بطّل الكلام الفارغ ده، ويلا بينا نمشي من هِنا الواحد مُش ناقص.
ومَدّلي إيده عشان أقوم، وقَفت بالعافية وسَندت على كِتفه ومشينا، خرجنا من المقابر ووصّلني لحد البيت، وساعتها سابني على الباب وقالّي إنه هَييجي يطَّمن عليا، ولمّا دخلت قابلتني “نوال” وهي بتخبَط بإيدها على صدرِها وبتقول:
-مالك يا “عِبادة” إيه اللي عمل في هدومك كِدَه؟
زقّيتها بإيدي عشان أقعد على الكنبة، مكَنش فيّا حيل أقف على رجلي، وساعتها كمِّلِت كلامها وقالتلي:
-ما ترُد يا راجل كُنت فين دا أنا استعوَقتَك.
-هاتيلي شويّة مايه.
جابتلي أشرَب، ولمّا بدأت آخد نَفَسي قومت دخلت الأوضة وغيّرت هدومي، وبعدها قعدت على السرير، وساعتها “نوال” جَت وقالتلي:
-مُش هتقول بقى حالك مدهوِل من الصُّبح ليه؟
ملقِتش مَفَر من إنّي أحكيلها، كانت مع كل كلمة بقولها بتلطُم على صدرِها وبتقول:
-يالهوي.
ولمّا قولت كل اللي حصل معايا، قالتلي:
-أنت أكيد حد عاملك حاجة.
-حد مين اللي هيعملّي حاجة؟ ما أنتِ عارفة إنّي ماليش عداوة مع حد، ولا بصدّق في الكلام ده أًصلًا.
-مرضى النفوس كتير يا خويا ولا تِعلم، وبعدين ما أنت أبوك حاله كان غريب برضو قبل ما يموت.
لولا إنّي كُنت مشغول بحالي كُنت طلَّقت “نوال” في اللحظة دي، هي عارفة إنّي مُش بطيق سيرة أبويا، بَس التَّعب اللي حاسس بُه في جِسمي من وقت ما صحيت قبل الفَجر كان قاتِلني، راسي بدأت تِتقل وعيني بتغفّل، طَلب منها تطفي نور الأوضة وتخرج عشان أنام، وساعتها قالتلي:
-مُش هتاكل لُقمة الأول؟
-ماليش نِفس لأي أكل.
متكلّمتش كتير، طَفَت النّور وواربِت الباب وراها وهي خارجة، وأنا غمّضت عيني، كُنت مابين إنّي نايم وصاحي، حتّى حسّيت بـ “نوال” وهي داخلة بعد شويّة تنام جَنبي، قضّيت الليل قَلقان لحد الميعاد اللي المفروض إنّي بقوم أروح فيه الغيط، لكن من ساعة اللي حصل امبارح وأنا واخد قرار إنّي مش هخرج قبل النّاس، أنا اللي علّمني الحكاية دي أبويا، وهو كمان اتعلّمها من جدّي، كانوا بيروحوا الغيط قبل الفَجر بوقت طويل، لكن توبة إنّي أعمل كِدَه تاني.
انتظرت لحد ما أذان الفَجر الأوّلاني أذّن، في الوقت دَه النّاس بتبدأ تطلع على الغيطان، قومت وبدأت أجهَز، ولقيت “نوال” قامت من النوم وبتقول بصوت كلّه نوم:
-أنت خارج يا “عِبادة”؟ مُش هَترتاح؟
ردّيت على كلامها المايع وقولتلها:
-عاوزاني أقعد جَنبك زي الحريم؟ هطلع أروح الغيط وأشوف مصالحي.
-أنا كان قلبي عليك.
وزي كل يوم، خرجت من الدّار على الزريبة وسحبت الحمار والجاموستين، لكن كل اللي اختَلف إني مكُنتش لوحدي على الطريق، حتّى النّاس كانت مستغرباني، كُنت بالنسبالهم طالع متأخّر، ولمّا وصلت عند الحوض القديم على الطريق، سمعت صوت الجَنزير زي ما يكون خارج من وراه، قولت دي تهيّؤات، كمّلت ووصلت لحد الغيط، تمّمت على الأرض وبعدها قعدت في الجُرن، ولَّعت شويّة حَطب وطلَّعت عدّة الشاي، الصداع كان هيقسِم دماغي نُصّين وكانت طالبة أعدِل دماغي بكوبّاية شاي، ويادوب الشاي بدأ يغلي ولقيت “نوال” داخلة عليّا الجُرن ومعاها المنديل اللي أحيانًا بتجيبلي فيه الأكل، أوّل ما شوفتها قولتلها:
-إيه اللي جابِك يا ولية؟
-جيبالك لُقمة تاكلها بدل ما أنت مشيت على لَحم بَطنك.
-مُش كُنتِ تعرفيني إنّك جاية؟
-أعرَّفك؟ أوعى ياراجل تكون تعرف واحدة عليّا وبتجيلك هنا وخايف أجيلك فجأة.
-الفجأة تاخدك يا بعيدة، إيه الكلام الماسخ ده؟
حطّت المنديل على الكنبة الخَشب اللي في الجُرن وقعدت جنبه، وساعتها طلعت أجيب شويّة حطب عشان النار اللي بدأت تنطفي، لكن وأنا برَّه الجُرن بصّيت عليها لأنّي كُنت مستغرب طريقة كلامها، لكن لمّا بصّيت عليها من بعيد مَكَنش كلامها بَس هو اللي غريب، دا ملامحها مَكَنِتش هي الملامح اللي أعرفها، كانت أجمَل بكتير، كأنّها واحدة تانية، لكن الحِلو مَبيكمَلش، بدأت أرجَع لِورا والحَطب اللي جمعته من الأرض يُقع من إيدي، لمّا لقيتها بتهِز في رجليها وهي قاعدة، اللي كانوا رجلين مِعيز!
بقيت أجري في الأرض وأنا بقول:
-يا سنة سوخِة يا ولاد! هو إيه اللي بيحصل معايا ده؟
لكن قرَّرت إنّي مَهرَبش، بدأت أقرَّب من الجُرن وادوّر عليها، لكن مكُنتش شايفها، قولت أكيد قعدت في رُكن كِدَه ولا كِدَه، لكن لمّا دخلت الجُرن ملقِتهاش، مكَنش في غير المنديل، كان موجود مكان ما سابِتُه، قرَّبت منّه وفَتَحته وأنا مَرعوب، وساعتها لقيت فيه خُصلة شَعر طويلة وملفوفة.
حسّيت إن قلبي هَيُقف من الخوف، لكن مكَنش قدّامي غير إنّي أربُط المنديل من تاني وأخلّيه معايا، لبِست جلّابيتي وأخدت الحُمار والجاموستين ورجّعتهم على الزريبة، لكن كُنت واخد قرار إنّي مُش هدخل الدار، أخدت المنديل باللي فيه وروحت على القهوة، ولمّا وصلت ناديت على القَهوجي وقولتله:
-واد يا “بُرعي”، أنت عارف بيت “زكريا”؟
-أنا عارف بيت كل واحد في البلد.
-طيّب ياخويا بطّل لماضة وروح قولّه إنّي مستنّيه على القهوة.
وانتظرت على الترابيزة اللي دايمًا بقعد عليها، وأوّل ما “زكريا” وصل كان وشّه مخطوف، وسألني:
-إيه يا “عبادة”، جايبني على ملا وشّي دلوقت ليه؟
-عشان اللي حَصل معايا النهاردة.
-تاني؟
-وتالت ورابع، وشكلي مُش هيبقى ورايا غير الموّال الزفت ده.
-إيه اللي حصل؟
-قاعد أعمل كوبّاية شاي في الجُرن ولقيت “نوال” داخلة عليّا بمنديل فيه أكل.
-وفيها إيه لمّا مراتك تجيلك الجُرن مُش فاهم أنا؟
-ماهي مَطلعتش “نوال”.
-يعني إيه “نوال” مطلعِتش “نوال”؟
-أهو دَه اللي حَصل، في البداية كلامها كان ماسِخ معايا، سيبتها وخرجت أجيب حَطَبات للنار وبصّيت عليها من برّه لقيت ملامحها متغيّرة ورجليها رجلين معيز.
-يا “عِبادة” قول كلام غير دَه، يعني أنت مُش بتصدّق في الكلام ده وتقوم تقوله!
-زي ما بقولّك كِدَه ده اللي حَصَل.
-وبعدين.
-الخوف كان هيخلع قلبي، ولمّا بصّيت في الجُرن تاني ملقتهاش، زي ما تكون الأرض اتشقّت وبلعِتها، وملقِتش غير المَنديل اللي بتجيبلي فيه الأكل من وقت للتاني، ولمّا فَتحته لقيت فيه خُصلة شَعر.
-وفين المَنديل دَه؟
-ماهو قدّامك أهو يا “زكريا”.
وشاورتِله على المَنديل، وكمّلت كلامي:
-افتَح بنفسك وشوف.
حسّيت إيده بترتِعش وهو بيفك رَبطة المنديل، ولمّا فَتحه وبَص فيه اتفزَع من مكانه، وأنا كمان اتفَزَعت أكتر منّه.
اللي في المَنديل مكَنش خُصلة شَعر، دا كان تِعبان أسوِد مَلفوف، أوّل ما فَتحنا المنديل قال يا فَكيك وهِرِب، كان “زكريّا” بيبُصّلي والدَّم هربان من وشّه وبيقولّي:
-إيه شُغل الحاوي دَه يا “عِبادة”؟
كُنت بَضرب كَف على كَف ومُش مصدّق عينيّا وبقولّه:
-اللي كان جوّه المَنديل خُصلة شَعر.
-وأنت شايف إن اللي جِرِي قدّامك دَه شَعر ولا تِعبان، دا حَنَش يا “عِبادة”.
-أنا هَتجنّن.
-اسمَع بقى، أنت حالتَك دي مبقاش يتسِكت عليها، بالطريقة دي كلّها يومين وتتجنّن ومُش بعيد تحدّف الناس بالطوب.
-والعَمل.
-تعالَ نروح للشيخ “رؤوف” نقولّه على حكايتك، ونشوف هيقدَر يساعدك ولا لأ، ومَتقولش بقى تخاريف والفلسفة الفاضية بتاعتك دي، أهو أنت شوفت بنفسك.
مُش عارِف ليه رجِعت بالزَّمن كام سنة ورا، قبل أبويا ما يموت بحوالي 3 سنين، لمّا رِجع في يوم من الغيط وكانت حالته حاله، بيزعّق وطايح في كل اللي قدّامه، يومها ضَرب أمّي وكانت دي أوّل مرّة يعملها، كُنّا كلّنا خايفين منّه، وفَضل على الحال دَه لِحَد ما وقَع في الأرض وهو فاقِد الوَعي، ولمّا أخدناه للدكتور عرفنا إن عنده نوبة صَرع، الموضوع كان غريب وجديد علينا، لمّا الدكتور سألنا لو حَد في العيلة كان عنده المَرض دَه قولناله إن العيلة مفيهاش حد تَعبان بنفس المَرض، كَتبله على أدوية ومع الوقت بدأ يتحسّن، بَس حياته اتقَلبِت، بقى يقضّي أغلب النهار برّه ويرجَع على النوم، مكَنش بيكلّم حد فينا، خصوصًا أمّي اللي بقى نافِر منها بدون سَبب ومُش بيطيق يبُص في وشّها، وبَعد ما كان متعوّد يطلع الغيط قبل الفَجر بقى بيروح في نُص الليل، وأحيانًا بيبات هناك باليومين والتّلاتة، وفي مرّة واحد بلّغنا إنه كان جَنب الجُرن بتاعنا بالليل وسِمع أبويا بيكلّم واحدة كانت معاه جوّه، ولمّا قرَّب من الباب وبَص عليه لقاه قاعِد لوحده، ساعتها حكاية الصَّرع اللي جَتله كانت انتشرت في البَلد، عشان كِدَه الحكاية اتفسّرت على إنّها تهيّؤات من التَّعب اللي جاله، لكن واحد ابن حلال مُش فاكِر اسمه كان قالّنا إن طالما التَّعب دَه مُش موجود في العيلة عندنا لأنّه غالبًا بيكون وراثة، يبقى من الأفضَل نشوف شيخ يعالجه لأن الصَّرع مُمكِن ييجي من مَس شيطاني، ودَه اللي خلَّى أمي أخدِت أَطَر أبويا وراحت للشيخ “رؤوف” لأنه مُستحيل كان هيتجاوب ويروح معاها، لأنّه أصلًا كان مقاطعها وكارهها.
أما أنا عن نفسي مكُنتش مقتنع باللي أمّي عملِتُه، لكنّها لمّا راحت والشيخ كشف على أبويا عن طريق الأَطر؛ قالّها إن في جِنّية من تَحت الأرض عَشقاه، دا كمان قالّها إنها متجوّزاه وده اللي مخلّيه باعِد عنها لأنّها كرَّهِته فيها، وساعتها الشيخ وعدها إنّه يحِل المُشكلة وهيعمل اللي هيقدَر عليه، لكنّه مقدِرش يعمل حاجة، وبعدها بكام يوم بنصحّي أمّي لقينا السِّر الإلهي طالع منها، وقرايِب أمّي صمّموا وقتها إنها تندِفن عندهم مُش في مقابر أهل أبويا.
كمان مكُنتش مُقتنع إن أبويا بيعمل دَه غصب عنه، ولا مُقتنع بحكاية مَس ولا جنّيّة من تَحت الأرض تتجوّز إنسان، عشان كِدَه قاطِعت أبويا لأنّي كُنت معتِبره سَبب في موت أمّي، لكنّه مات بعدها بسنتين، ويمكن دَه سَبب إنّي شوفت نفسي في الحِلم بقرأ الفاتحة لِجدي مُش لأبويا، رغم إنّهم الاتنين مدفونين في نفس القَبر.
لكن لقيت تفكيري رايح ناحيتي أنا، وبدأت أقول لنفسي هو اللي كان بيحصل لأبويا حقيقة وغصب عنّه وأنا ظَلمته؟ يعني مُمكن يكون فعلًا جنّية كانت مسيطرة عليه وعلى أفعاله؟ لَحَسِت مُخّه وخلّته ميفكّرش غير فيها ويقضّي الليل في الغيط معاها.
-أنت يا أخينا، روحت فين؟!
-ها.
-ها إيه، بكلّمك وأنت ولا هِنا.
-معاك.
-تعالَ نروح للشيخ “رؤوف”.
بَلعت ريقي وقولتله:
-هو لسّه عايش؟
-دا صحّته أحسن منّي ومنّك.
أخدنا بعضِنا وروحناله، بيته كان في آخر البَلد وسط كام بيت محدوفين، مكُنّاش عارفين إن كانوا تَبع بَلدنا ولا البَلد اللي جَنبنا، وعشان حظّنا اللي مُش عارف إن كان حلو ولا منيّل لقيناه موجود، كان معايا المَنديل في جيبي، دخلنا وقعدنا في أوضة عاديّة مفيهاش غير كَنب وترابيزة فوقها مبخرة، سألنا عن الحكاية اللي رايحين له عشانها، قولتله كل حاجة بالتفصيل، لكن لقيته بيقولّي:
-إيه اللي في جيبك؟
افتَكرت إن مفيش في جيبي غير المَنديل؛ فقولتله:
-مَنديل قُماش.
لقيته بيمِد إيده وبيقولّي:
-ناوِلني.
طلَّعت المنديل ونفّذت اللي طلبه منّي، ولمّا مِسكُه في إيده قرَّبه من وشّه وبدأ يِشِم فيه وهو مغمّض عينيه، وبعدها قالّنا:
-المنديل دَه فيه ريحة مِن تَحت الأرض.
قولتله وأنا بحاول أفهم كلامه:
-يعني إيه ريحة مِن تَحت الأرض؟
-فيه ريحة كَبريت، الريحة دي مَبتكونش غير في المَكان اللي اتوَجد فيه جِن، خصوصًا لو جِن ناري.
ساعتها لقيت “زكريّا” بيتقلَّق من مكانه كده وهو بيقول:
-إيه ياشيخ “رؤوف” اللي بتقوله دَه، إحنا جايين عشان ترقيه والحكاية بسيطة.
-في واحدة عاوزاه مِن تَحت الأرض وقرَّرت إنها تستحوذ عليه، أنا هحاول أساعده على قد ما أقدر.
-أنت المفروض تساعدنا ولا تخوّفنا ياشيخ “رؤوف”؟
-أنا بقولّكم الحقيقة اللي بدأت تتحقّق.
الكلام كان زي الشوك اللي بينخز في جسمي، عشان كِدَه قولت بصوت مهزوز:
-وإيه المطلوب منّي؟
-الحل إنّك هَتلبِس حجاب يطرُد العارض الشيطاني اللي بيحاول يستحوذ عليك.
وساعتها عطاني ورقة مطبّقة في شكل مثلّث، بعد ما لفّها في قُماشة لونها أبيض وبدأ يخيّطها من كل ناحية، وبعدها علّقها في خيط أسود؛ فَبَقت زي ما تكون سِلسِلة، وطلّب منّي ألبِسها في رقَبتي ومَقلَعهاش أبدًا، وإن كُل اللي بيحصل معايا هينتِهي، مكُنتش مُقتنع لكن مكَنش قدّامي اختيار غير إنّي أعمِل اللي قال عليه بعد ما قالّي:
-الحكاية بتبدأ بالتدريج، كابوس في التّاني، وبعدها بتبدأ تحِس إن الأحداث بتحصل معاك في الواقع، عشان تبدأ تقتنع إن عقلك بيروح واللي حواليك ينفروا منّك، وأنت كمان تنفُر منهم، وتبقى مقطوع من شجرة وتقدر تسيطر عليك.
قولت وأنا بحاول أستفسر أكتر:
-هي مين اللي تسيطر عليّا؟
-جِنّيّة رايداك من تَحت الأرض.
-وهي الحاجات دي حقيقة ولا كلام بنسمعه في الحواديت.
-بُص لحالك هتعرف إن كان حقيقة ولا حواديت.
وبعدها بصّلي كأنّه بيفتِكر حاجة وقالّي:
-أنت مُش ابن “المتولي”؟
هزّيت راسي وقولتله:
-أيون، الله يرحمه بقى.
-أبوك كان متجوّز جنّيّة من تَحت الأرض، بعدِته عن النّاس وعن أمّك وكان بيقابِلها في الغيط بالليل.
الدُّنيا دارِت بيا، مُش عشان حكايتي اللي بقت غريبة، ولا قناعاتي اللي اتغيّرت في يوم وليلة، دا عشان عرِفت دلوقت إن حكاية أبويا مَكَنِتش مجرّد كلام، وكُنت خايف أوصل للمرحلة اللي هو وصلّها، نوبات صرع وانعزال عن النّاس ويبدأوا يشوفوني على إنّي راجِل بَرَكَة وشيخ والكلام اللي بتقال ده.
هو الزَّمان بيعيد نفسه ولا إيه؟
كُنت بسأل نفسي السؤال ده، وأنا بحُط السلسلة اللي فيها الحِجاب أو الحِرز في رقَبتي، كلام الشيخ كان بيقول إنه مُش هيقدر يصرف الجنّيّة أو أيًا كانت اللي رايداني، وإن كل اللي يقدر عليه هو الحِرز اللي الموضوع بقى مَرهون بُه، خرجنا من عنده ومكُنتش بتكلّم، لكن لقيت “زكريا” بيقولّي:
-حكاية لَها العَجب، دايمًا بتقولّي إن الكلام دَه مجرّد خرافات، لحد ما وقعت في الخَيّة، وأبوك كمان كان قبل منّك، هي الجنّية دي مفيش وراها غيركم ولا إيه؟
-خلاص يا “زكريا” بطّل كلام ماسِخ.
روّحت البيت بعد ما أصرّيت إنّي أمشي لوحدي، ولمّا وصلت مكَنش ليّا نِفس أتكلّم أو أعمل أي حاجة، دخلت على الأوضة و “نوال” دخلت ورايا، ولمّا لاحظِت السلسلة قالتلي:
-إيه اللي في رقبتك ده يا “عِبادة”؟
قولتلها وأنا بتكلّم بالعافية:
-النّصيب، كل واحد نصيبه بيطبَق في رقَبته.
ونِمت من غير ما اتكلّم، وصحيت على ميعادي قبل الفَجر، ورغم إنّي مقرّر مخرجش أروح الغيط قبل النّاس بَس غصب عنّي خرجت من الدار وأخدت الحمار وروحت، كأن حاجة نَدَهتني، وفي الطريق عند الحوض القديم، الحمار وَقَف زي المرّة اللي فاتِت، في اللحظة دي كُنت متأكّد إن تصرُّفه مُش حموريّة ولا حاجة، أنا كُنت واثِق إنه وَقف غصب عنّه، ومُش عارف ليه نزلت من فوقه ووقفت جنبه، وساعتها سابني وهِرِب، كان بيجري ناحية الأرض، ولمّا بقيت لوحدي سمعت صوت الجَنزير، كان جاي من ناحية الحوض القديم والتّرعة، بصّيت ناحية الصوت وشوفتها، كانت طالعة من ورا الحوض، بشرتها بيضا، شَعرها طويل ولونه أسود زي الليل ومَفروش على الأرض من وراها، بدأت تقرّب منّي، كان نفسي أهرب لكن حسّيت إنّي متمَسمَّر في الأرض، ولمّا وقفت قدّامي قرَّبت وشّها منّي، ريحة أنفاسها كانت زي الدُّخان، ولمّا قرَّبت إيدها من وشّي لقيت ضوافرها طويلة ولونها أحمر، نفس ضوافر الإيد اللي شوفتها في المقابر، وقالتلي:
-هو مات لكن اللي خلِّف مَمَاتش، أنتظرت كتير لِحَد ما تكمّل الـ 40 سنة، عشان أنت شَبهه الخالق النّاطق.
في اللحظة دي افتكرت إنّي شبه أبويا جدًا، لكن أوّل مرّة أحِس إن الشبه بين ابن وأبوه يكون لعنة، وافتكرت إن أبويا بدأت تحصل معاه الحاجات الغريبة دي لمّا وصل سن الأربعين، نفس سنّي، بعدها مشيت قدّامي ناحية الغيط، ولقيتني ماشي وراها زي المَجذوب مُش عارف أسيطر على نفسي، شَعرها اللي كان بيجرجر وراها في الأرض وصوته كان زي الجنزير، وأنا زي المَسحور غايب عن الدّنيا، حاولت على آخر لحظة إنّي أفوق، دوَّرت على السلسلة اللي في صدري لكن ملقتهاش، معرفش هي اختَفت فين، لكن وهي ماشية بدأت أركّز مع رجليها اللي كانت بتبان من تَحت عبايتها مع كل خطوة والتانية، كانت رجلين معيز!
برغم الخوف اللي جوّايا لكن كُنت مكمّل غصب عني، لحد ما دَخَلِت الجُرن وأنا دَخَلت وراها وكان يادوب مفيش بيني وبينها غير خطوتين تلاتة.
مَبحبّش أفتِكر أي حاجة من اللي حصلِت بعد كِدَه، لكن لمّا النّهار بدأ يطلع والنّاس بدأت تيجي على الغيط لقيتها اختَفت فجأة من جنبي، وساعتها لمَحت نفس التعبان اللي طِلع من المنديل وهو بيزحف على الأرض وطالع من الجُرن، في الوقت دَه عرفت إنّ هي اللي كانت في المنديل لمّا “زكريا” فَتحه على القهوة، دا غير إن اللي حصل النهاردة فسَّر حاجات كتير كانت محيّراني.
أغرب حاجة لمّا جيت أروّح، مسِكت الحمار عشان أسحبه ورايا، لكن لأوّل مرة يتصرّف كِدَه، كان بيهرب منّي، لدرجة إنه هِرب وراح على الدار لوحده، لأنّي لمّا وصلت لقيته واقِف هناك، كُنت راجِع وطول الطريق حاسِس بصداع هيكسَر راسي، مكُنتِش طايق الهدوم اللي عليّا وكاره إنّي أرجَع البيت، ولمّا دخلت شوفت مخلوق مُخيف قاعد على السرير، كان شَبه القِرد ووشّه كلّه شَعر، الغريبة إنّه كان عارفني وبيتكلّم معايا عادي وبيقولّي:
-أنت عامل إيه النهاردة يا “عِبادة”؟
ولمّا وقفت مذهول من اللي بيحصل وقولتله:
-أعوذ بالله من الشيطان، أنت مين؟
بصّلي بعينيه الغريبة وعمل نفس صوت القِرد وبعدها قالّي:
-يخّيّبك راجل هو أنت شوفت عفريت؟ مُش عارف “نوال” مراتك؟
خرجت أجري من الدار لمّا لقيت إن القِرد بيقول إنّه “نوال”، مُش عارف ليه رِجلي أخدتني للمقابر، قعدت قدّام قبر أبويا وجدّي لحد ما النوم أخدني، ولمّا صحيت لقيت نفسي بالليل، سمعت صوت الجَنزير بيقرّب منّي، ولمّا بصّيت ناحية الصوت لقيتها، أخدِتني من إيدي ومشينا لحد الجُرن اللي في الغيط، وهناك فضِلت معايا لحد ما النهار بدأ يشقشق واختَفَت، وبعدها خرجت من الجرن على شكل تِعبان.
الأيام فاتِت ونسيت طريق دارنا، مَكُنتش حافِظ غير الطريق ما بين المقابر اللي بنام فيها بالنهار، والغيط اللي بقضّي فيه الليل، الجلّابية اللي عليّا اتقطّعت وبقت كلّها تراب، مكُنتش شايف ملامحي، لكن كُنت حاسس دَقني طوِلت هي وشَعر راسي لدرجة إن أي حد يشوفني كان بيقول عنّي إنّي اتجنّنت، لحد ما في ليلة وأنا معاها في في الجُرن لقيتها بتطلّع السلسلة اللي راحت منّي وبتقطّعها، في اللحظة دي آخر حاجات كُنت فاكرها اتمسحت من نافوخي، لدرجة إني حاولت أفتكر أنا أخدت السلسلة من مين ومقدِرتش، أنا مَبقِتش عارف غير كام حاجة بَس، إنّي لمّا كُنت بروح ناحية القهوة كان في حد بيحاول يفكّرني بحاجات كتير لكن فعلًا مكُنتش بَفتِكر، كان بيقول إن اسمه “زكريا”، لكن مفتِكرش إنّي أعرف حد بالاسم دَه، دا مكَنش بيفكّرني بنفسه وبَس، كان دايمًا يفكّرني بواحدة اسمها “نوال” معرَفش هي مين، لكن أنا مَعرفش حاجة غير اسمي، وإنّي بَحِب أكون في الجُرن بالليل مع واحدة جميلة جدًا، وإنّي بقضّي النهار نايم قدّام قبر مُش عارف هو قَبر مين، وإن النّاس لمّا بتشوفني بتقول عنّي المجنون، إنّما الشَّخص اللي كل ما يشوفني يفكّرني بحاجات أنا مُش فاكرها ده، مكَنش بيقول عنّي مجنون، دا كان مسمّيني الشيخ “عِبادة”.
*

الكاتب

  • محمد عبدالرحمن شحاتة، مصر، مواليد 1989، حاصل على بكالريوس تجارة قسم محاسبة. يكتب الرواية والشِّعر الفصيح. صدر له أكوديسفا "رواية"، الموقع الأسود "رواية"، حفرة جهنم "رواية" كيد ساحر "رواية"، ليلة في عَرَقَة "مجموعة قصصية"، السّمنار "مجموعة قصصية"، كارما "سلسلة حلقات الموقع الأسود الإليكترونية-الموسم الأول". كما صدر له خمسة دواوين من الشعر الفصيح. نُشرت له عديد من القصص القصيرة والمقالات والقصائد في عديد من الصحف والمجلّات.. حائز على جائزة الإبداع  عام 2012- المركز الأول.

شارك هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *