أريدُ موتًا رحيمًا
على ضفاف الحياة ، اتخذتُ ركنا قصيا ، و على عتبات الزمن ، وقفت مليا ، رأَيتُني أتهاوى ، و قد دَأبت أهات ُ أحبتي تَقتاتُ من تجلدي و اصطباري ، و قد عاثَت نَدَباتُ أحزانهم في نِياط خافقي تهشيما .
بَصُرْتُني و قد دَكدَكني العجزُ ، و هدّني الضعفُ ، و ما بقي مني إلا طللٌ بالٍ ، جذبت أرضهُ و غَدَت بيدا قاحلةً .
و إني في ركنيَ ، أسمعُ و أرى :
أسمع صدى أنفاسكم المتقطعة ، و أنتم تبوؤون بالفشل ، المرة تلوى الأخرى أمام حصوني العاتية ، و إني أرى خطاكم المتثاقلة ، و أتحسس وطْءَ أقدامكم المهترئةِ ، و أنتم تلوذون بالإنصراف ، حين اليأسِ من فتح أبوابي الموصدةِ ، و نوافذي
المغلّقةِ ، و قد شَهدَت على خيباتكم آثارُكم التي علَّمَت في السبيل ذهابا و إيابا . و لربما صَمَّت مسامعَكم زفراتُ زئيري ، و حشرجاتُ أنَّاتي المتصاعدة ، و عكَّرَ شذا أنفاسي المخضبة بالأسى ، المضمخة بطعم العلقم شذى عبقكم .
بَيْدَ أنكم لا تملُّون !
ها أنتم لا تزالون تقبعون ساعات على أرصفة أسواري ، ترتجون انعطافي ، فلا أنا جَنَحْتُ ، و لا أنتم رَكَنْتُم .
فما أقساني و ما أتعسكم !
و لم تفتأوا تقفون على قارعةِ طريقي ، تأملون في أن تصيرَ كآباتي مَسَرَّاتٍ و أمالا . و يُحالَ ظلامي الدامسُ نورا ، فلا أنتم يئستم ولا أنا انقدتُ ، فَيالَحُنُوًِكم و يالَجبروتي !
لكني على تمنُّعي : وَدَدْتُ لو أنّ آذانكم استرقت تلكمُ التغاريدُ التي شَدَوناها معا ، لَكَم تمايَلَت على عزفها جدائِلُ النخيل ، وتراقص على لحنها السحابُ في عُبابِ السماءِ .
فكيف تماهتْ بين الجَلَباتِ و أضحت صمتا أكثرَ دوِيا من صخبي !!
آه لو رمقَت أَلحاظُكم طائر الحسونِ ، الذي تعَهدناهُ معا ، و هو يحومُ فوق أرجائي ، و على أسواري ، ما بَرِحَ يتعهدني ؛ يتفقدني ؛ غير آبهٍ لصدِّي .
ما بالُ اللحنِ كيف اندثرْ ؟!
و ما خطبُ الحسونِ يأبى الانعناقَ و هو حر ؟!
أَ تُراهُ أدركَ و جهلتم ؟!
جهلتم ، فدَبَّ الفشلُ في نفوسكم ، و آثرتم لطمَ الوجوهِ السَّاهمةِ ، و ضربَ الكفوف الواهمةِ ، أمام بابٍ قُدًَ من سرابٍ ، لو مُدّت له يدٌ لفُتِحَ طواعية ، و قد أدركَ فظل مرابطا !
أدرك أن : نفسي لم تَعُدْ مثقلةً بثمارها ، فَتقطفونَ ، تأكلون و تشبعون ! لقد نَخَرَ جذعيَ الكَمَدُ ، فَ قَطَعْتُني بيد من كبرياء مهزوز.
علِم أن أوصالي جفَّت ، و صار دمُها أُجاجا ، امْتَشَقَ الظمأُ زُلالَهُ ، فَرَأَبْتُ مواردَها بساعدٍ مبتور .
خارَت قِوايَ و ما عادَ فيها استقواءُ ضَعفكم ، شُلَّت عُرايَ ، وما باتَ يُرٍجى منها اسنتهاض هِمَمِكم ، عشَّشَ الحزن في كياني ، و صار عَثَّا متراميا ،سَدَّ مساماتِ انبثاقِ الضحكات ، وَيْكأنه جاثومٌ آسرٌ .
طَمَرَ النَّصَبُ مواطنَ البذلِ ، فَغَدَت أكواما من رمال متناثرة ، تطايرت شظاياها هنا و هناك .
فكيف تُراني سأحيا ، و الموتُ ينشُبُ مخالبَهُ في مكامني ، كلما عَلا صوتُ استجدائكم ، وأنا مرتهنة بين غياهب الأسى ، سجينة في براثن الوهن .
كيف تلتقط أنفاسي زفيرا مُدَخَّنا برضابِ غصَّاتكم ، إنَّكم إذ تَزْفَرونَْ ، تشهقونٕ أنفاسي الخائرة ، و إنَّها لَأَنفاسٌ أخيرة فامكُثوا ….
أَلا تَعالَوا : و لْتَكْتَحِلْ عينايَ بكم و لْتكونوا آخر مرآي .
ألا فاشهدوا انعتاقَ جسدي الواهي ، من عالم الفناء ، و الانكسار ، و كونوا على يقين ، أنَّه إذا ما سـجِيَّ تحت الثرى ، انسابَ بين ذرَّاتِ التراب ، و تماهى مع حبات الأديم ، متى رَوَيْتُموهُ بمدامع الحنين ، أَيْنَعَ أَزاهرا ، فُلاَّ و اقحوانا .
ألا فارتقبوا : انبثاق روحي التي ستظل حائمة ، طائفةً ، بينكم تُسْمِعكم هدهدة السلام ، إذ ما انتهيتم إلى مضاجعكم ،
ترسمُ على محيّاكم تقاسيمَ السعادة ، إذا ما انتابكم شيء من كَدَرٍ ، ألا فارتَموا إلى أحضاني ، ولتَشُدُّوا على أَوْداجي ، و لْتُسْلِموني و لا تستسلموا ، و لتدركوا أن موتي ميلادُ نَزَقِكم و انطلاقَتِم ….ألا فارعَوا الحسون فإنه شَطْرٌ من روحي .
اترك تعليقاً