MRI
كان الممر طويلًا، وقف يسحب أنفاسه بشهيق يصعد على صدره ثقيلًا، يتحرك قلقًا، ثم سأل الممرضة:
أين تقع غرفة رقم “٣٥”؟
أشارت إليه بإصبعها، عاود السير مسرعًا، بينما تدور حوله صورته وآخر كلامه بالأمس.
كان خائفًا، لعله ينتظرني كعادته، فأنا أعرفه جيدًا، أعرف أنه يهتم بمواعيده، ويكره الانتظار.
توقظه لافتة مضيئة تحمل عنوان غرفة (٣٥)، يدخل باحثًا عنه، كانت الردهة مشرعة الستائر من كل جانب، يتأمل جيدًا لائحة كتب عليها (الهدوء رجاء).
ذهب إلى الاستعلامات ليسأل عنه، بادرها بالحديث:
_أين صديقي الذي يرقد في غرفة ( ٣٥ (؟
نظرت إليه بحزن شديد :”وصلت متأخرًا جدًا، إنه يرقد بسلام الآن.
شعر ببرودة إجابتها تغزو كل مسام جسده والهم يخطو إلى نفسه، حين أكملت:
_لحظة، لقد وجدنا هذه الأشياء، وقد ترك لك هذه الورقة.
رغم كل شيء لم يشغله إلا الورقة، أخذ يقرأها باهتمام وتمعن:
صديقي العزيز..
أعلم أنك ستأتي كعادتك، ولكني رجوت الموت أن يتأخر قليلًا، لكنه أبى.
منذ تركتني، وأزرار تلك الآلة لا تعمل، كما أزعجني كرسيه الدوار ، بينما الراقد خلف النافذة ينتظر لحظاته الأخيرة، الموت
يلاحقني كلما ازدحمت ذاكرتي بأطياف الماضي التي تتراءى لعيني.
ظلال الموت التي تنمو أكثر كلما اقتربت لحظات الفراق عن هذا العالم، كأن ولعي بالحياة يخفت ضوئه فيخفق ظلي.
أرغب أن أرقد على سريري مبتهجًا في نشوة عامرة، أو ربما أثمل في ليلة تشرينية ماطرة تزيل عني كل الأعباء، بعد لحظات أفقد ذاكرتي، ثم أستيقظ في عالم آخر.
أشعر بمن أحبهم، والقلق يحيطهم من
كل جانب، لا يعلمون شيئًا عني، في نفسي أخاطب الله أنني سأموت، وهل هناك شيء بعد الموت؟
إنها فصول مشردة لا تملك شيئًا غير هشاشتها، أما برودة الجو، أو عتمة الشوارع، والخوف من المجهول القادم من خلف الأسوار فيحمل معه غيض السنين، لعلي أجد جرعة مخدر كبيرة؛ لتريح هذا الجسد فأبتهج لذلك، وأتمدد على قارعة الطريق، وأفترش قطعة من الورق المقوى الدافئة لعل أموت، هكذا كانت أحلامي في خضم هذه اللحظات.
يتوهج الضوء الأحمر فتسحبني الآلة، والشعور المغطى بقلق شديد ينتابني، ويسدل الضوء على عيني، ويداي ترتجف إذ تغزوها البرودة، واختفت ملامح صوتي، لم يعد سوى صدى الصوت يرن، وفي داخلي ينبع الخوف من كل جانب، بينما أستلقي في باطن الآلة، وهناك في الجانب الآخر من يحاول تشغيلها. أحاول أن أسترق البصر عبر الأسطوانة الحلزونية، ولكن لا أستطيع، تكاد تقتلني اللحظات، لا أبرح حتى أفتح عيني، فيقتحمها الضوء الأزرق بشدة، تكاد يداي تشل من شدة الركود، بينما أحاول رفعها فأتذكر أنها مقيدة.
– أين المفر أيتها النفس؟
لم يعد هناك شيء أسوأ حظًا من أن تغلق عليك آلة كهذه.
تأخذني مخيلتي بعيدًا..
أذهب مستقلًا المصعد، أضغط لدور “١٧”، يتوقف فتدخل امرأة غجرية الملامح، وأنظر إليها متذكرًا: (والشعر الغجري المجنون يسافر في كل الدنيا، قد تغدو امرأة يا ولدي يهواها القلب هي الدنيا)، ويستمر بالصعود، ثم تنقطع الكهرباء في لحظة، فترتمي داخل حضني خائفة وجلة من انقطاع الكهرباء، لم أعد بتلك اللحظة أتذكر شيئًا سوى عطرها الذي تشبث بي ما أن لامست يديها حتى أنقذتها مني الكهرباء، وعاد المصعد يعمل.
كانت خدودها خجلة، وهي تهرب مني، بينما تشير الإضاءة إلى الدور “١٧”، كنت أتمنى البقاء أكثر، ولكن خطواتها تسرع تاركة وراءها عطرها.
تستفزني ضوضاء غريبة تتصاعد بجلبة، ولغات لم أفهمها، أشم رائحة احتراق.
-اسحب القابض، وإلا سيموت الرجل.
جاءت كلماته مع رعشة اهتز لها جسدي البارد، والمستلقي داخل هذه الحلزونية الصماء، ثم تمتد لي أيادي مختلفة الألوان تحاول سحبي، لكنها باءت بالفشل ،يجتمعون حول الجهاز علهم يجدون سبيلًا لي كي أخرج، يحاولون بينما أنصت لأصواتهم.
-اقولك أي ياباشمهندس، ليه ما نسحبه بكماشة من رجليه ؟
لم تكن الكلمات ذات وقع يؤثر على المهندس المشرف..
– ممكن نتصل بالشركة الفرنسية، ويبعتوا لنا خبير من عندهم ونخلص .
إلى متى سوف يبقى حبيسًا بالجهاز ؟!
الصمت يدور حول الجميع ونظراتهم اليتيمة لم تعد تجدي، يجتمعون أمام الجهاز مع التقاط صور “السلفي”، وتنهداتهم تحوم حول الجهاز المقيت، في حين كانت خطواتهم تنبيء بالانسحاب بعد التقاطهم ما يثبت أنهم تداولوا القضية بجميع أشكالها، وأبدوا الآراء، وكذا تعاطفهم مع الحالة.
يضيق الخناق على روحي، وأنا أبكي كلما انبعثت من جسمي رائحة الموت، وقد بدأ يأخذ شكلًا آخر ليزهق آخر أنفاسي.
– هل ادخرت من يشيعني في الجنازة في الغربة، وأودع الحياة ؟
أنا تحت حلزونية حمقاء، أخرجوني يا صديقي بعد ما أصابتني التقرحات، وأنا أكتب إليك، بينما أشعر بلافتة سوداء كتب عليها اسمي، ولا تنس أن تروي شجرة الياسمين.
اترك تعليقاً