سبليمنال

سبليمنال

-بتقولي إنّك بتشوفيه؟!

-أيون.

كانِت بتبُصّلي وهي مصدومة وبتقولّي:

-إزّاي وهو مَيّت؟!

***

أنا “أسيل”، عندي 28 سنة، وِدَه كان حواري مع أختي “ريم”، هي أصغَر منّي بسنتين، لكن بَعتبرها كده زي صندوق أسراري، بَحكيلها كُل حاجة، حتّى علاقتي بـ “آدم”، كُنت بحكيلها عنها.

في الفترة الأخيرة؛ بقيت أقضّي وقت طويل جدًا في أوضتي، حسّيت برغبة في إنّي أنعزِل، اختفاء “آدم” قَلَب حياتي لِجَحيم، كُنت بدوَّر عن سَبب يخلّيه يِختِفي، مُمكِن عيب فيّا، أحيانًا بتكون عندي تصرّفات غريبة، لكن مَفيش حَد كامِل، التفكير بقى شيء مُرهِق؛ عشان كِدَه قرَّرت أختِفي أنا كمان.

رَفَعت راسي من على المِخدَّة وفَتَحت عيني، كان في صوت خَبط على الباب، ولمّا ركّزت شويّة؛ لقيت “ريم” بتصحّيني وبتقولّي:

-مَخَرجتيش من الأوضة بقالِك 12 ساعة لِحَد دلوقت! انتي كويّسة؟

مَكَنش عندي طاقة أرُد عليها؛ لكن لقيتني بمِد إيدي تَحت المخدّة وِبَسحَب تليفوني، وبَبعتلها على الواتس آب رسالة بقولّها فيها:

-أنا كويّسة، عايزة أنام.

في اللحظة دي؛ لَمحت رسالة من “آدم”، كان باعتها من حوالي ساعتين، لكن عشان تليفوني صامِت مَنتَبَهتِش لها؛ كان بيقولّي فيها:

-انتي كويّسة؟!

الحقيقة بَقيت مِستغرباه جدًّا، ازّاي بيِختِفي ومن فترة للتّانية بيدخُل يطَّمّن عليا؛ عشان كِدَه برُد عليه في كُل مرّة نَفس الرَّد وبقولّه:

-أنا كويّسة الحَمد لله!

المَلل كان قاتِلني، بصّيت في الساعة اللي على الحيطة؛ لقيتها عَدَّت 12 بعد نُص الليل، قرَّرت أخرُج من الأوضة، أخَدت تليفوني وقُمت، ولمّا فَتَحت الباب وخَرَجت؛ لقيت “ريم” في الصّالة، كانت فرحانة جدًّا إني خَرَجت من عُزلتي، قعدت على كُرسي الأنترية؛ وهي قامِت تِعملّي سندويتش وشاي، لَكن أنا مَكَنش في بالي غير “آدم” اللي اتغيَّر فجأة!

بدأت أسأل نَفسي، هو أنا للدرجادي بَحِبّه؟! يعني عَدَم وجوده هو اللي مخلّي حياتي مقلوبة كِدَه؟!

فَتَحت تليفوني ودَخَلت الأكاونت بتاعه، لكن اتفاجئت بالصَّدمة اللي أخدتِها وخلَّت التليفون يُقَع من إيدي، النّاس بتِنعي “آدم” اللي مات في حادثة من 3 ساعات!

يعني إيه بَعد ما يبعَت يطَّمن عليّا وأرُد عليا، أدخل أشوفه بعد كام ساعة ألاقيه مَعَدش موجود في الدُّنيا!

لقيت نَفسي بَصرُخ، وبجرَّح بضوافري جِلد وِشّي من الحُزن، مَحَسِّتش بنفسي غير وإيد “ريم” بِتِبعِد إيدي عن وشّي، وبتسألني:

-مالك إيه اللي حَصَل؟!

ولقيتني بقولّها وأنا بَصرُخ:

-مات، “آدم” مات!

***

فاتِت سَنة بالظَّبط، النّهاردة الذكرى الأولى على وفاته، مُش هخبّي عليكم؛ مَحسّيتش بأي فَرحَة بعد ما “آدم” خرج من الدّنيا، الحقيقة؛ مَكَنش يِفرِق معايا هو قريّب ولا بعيد، قد ما كان يهمّني إنه يبقى عايِش وكويّس، ومُش هَنكِر؛ إنّي مُشتاقة لوجوده بجنون، يِمكن عشان هو مات ومُستحيل نِتقابِل تاني، ماهو إحنا مَبنحِسّش باللي ضاع غير لمّا نِفقِدُه تمامًا!

في السَّنة دي؛ كانت “ريم” اتجوّزت؛ ومِن بعدها وأنا قاعدَة في الشَّقة لوحدي، كانِت هي اللي بتونّسني، ما إحنا أبونا وأمّنا ماتوا وإحنا أطفال، خالِتنا كانت بتربّينا، ولمّا كِبرنا اعتَمَدنا على نَفسِنا ورجِعنا شقّتنا.

بقيت بَحاول أونِّس نَفسي، انشَغلت كتير بالإنترنِت، بَلِف في مواقع أقرأ عن أي حاجة تقابِلني؛ لِحَد ما قابِلت موضوع بيتكلّم عَن تَجرِبة غريبة، وهي إنّي من خلال عقلي الباطِن مُمكن أستَحضِر أي حَد، حتّى لو مُش موجود في الدِّنيا، أو أحقق أي هَدَف صعب أحقَّقه في الواقع، ولقيتني بقول لِنَفسي: أنا ليه مَعمِلش محاولة وأستَحضِر “آدم”؟!

تقريبًا؛ كُل وقتي كان رايح على القراءة في الموقع اللي بيتكلّم عن التَّجرية دي؛ واللي كان اسمها “سبليمنال”.

لمّا فِهمت الخطوات؛ بدأت أنفّذ بدون تَردُّد، في الأوّل؛ بدأت أشغَّل موسيقى هادية، وأخلّي النّور هادي، كُنت بَقضّي وقت طويل جدًا في إنّي أتخيّل “آدم”، وبَحاوِل أستَحضر تفاصيله، أتكلّم معاه وأنتظره يرُد عليا، الحِكاية دي أخَدِت منّي حوالي شَهر؛ لِحَد ما بقيت أحِس إنّي مُش لِوَحدي، وفي الوَقت دَه، بقيت أحِس إن عَقلي مَلغي، وإن في قوّة تانية هي اللي بتحرَّك تفكيري، كُنت دايمًا بقرأ عن إن العَقل اللاواعي مُمكن يتحكّم فينا؛ وفعلًا الموضوع تقريبًا بجد.

***

 

التَّجربة الأولى…

بدأت بعد كُل المحاولات دي أشوف “آدم”؛ لكن في خيالي، بمجرَّد ما بغمَّض عيني وأبدأ في خطوات التَجربة، كُنت بَتخيَّل نَفسي وأنا ماشية جَنبه، بَس الغريبة، إنّي بشوف نَفسي معاه في أماكِن مُخيفة، إحنا بنتمشّى في طريق كُلّه شوك لونه أحمَر، الدُّنيا ليل، وعلى كُل جَنب من الطّريق أشجار ضَخمة مَفيهاش أوراق.

دي المرّة الأولى اللي شوفت نفسي معاه فيها، كان نَفس صوته، ونفس البرفيوم اللي بيحبّه، لَكن شَكله كان مُخيف، كان في جَرح في وشّه مخلّي شَكله متشوّه، افتَكرت إنّي حِلمت بُه في مرّة وأنا بضرَبُه بسكّينة، كُنت بحاول انتِقم منّه في الحِلم، وكانت النتيجة إن وشّه اتشَق، زي ما أنا شايفاه دلوقت بالظَّبط، عَشان كِدَه كُنت بَبُصّله وأنا مِستغربَة وبقولّه:

-إيه اللي عَمل في وشّك كِدَه؟!

رَد عليّا مِن غير ما يبُصّلي وقالّي:

-انتي يا “أسيل”

مَكُنتِش مستوعبة اللي بَسمَعه؛ عشان كِدَه قولتله:

-مَحَصَلش!

كان بيرُد عليّا وهو واثِق من كلامه وبيقولّي:

-حَصَل.

-كان حِلم!

-ماهو اللي انتي فكراه حِلم دَه، هِنا هتلاقيه حَقيقة.

فجأة؛ لقيته اختَفى من جَنبي، ويادوب بَلتِفِت عشان أشوفه راح فين؛ لقيت نَفسي بَفوق من التَّوهان اللي كُنت فيه، عرِفت ساعِتها إن كل اللي بيحصل دَه، كان مُجرَّد تخيّل، بَس لحظة، أنا فعلًا شامّة ريحة البرفيوم بتاع “آدم” في المكان دلوقت، كأنّه كان هِنا فعلًا!

مِسكت تليفوني واتّصلت بـ “ريم”، ولمّا ردّت عليا قالِتلي:

-اتّصالِك في الوَقت دَه قَلقني؛ انتي كويّسة؟!

ردّيت عليها وأنا بحاول أداري خوفي ومَكونش مَهزوزة قدّامها وقولتلها:

-أنا كويّسة، بَس حسّيت بِمَلل؛ فقولت أسمَع صوتك.

اتكلّمت معاها شويّة، وبَعدين قَفَلت، رِجعت أفكَّر من تاني في اللي حَصَل، لكن ريحة البرفيوم بدأت تزيد، زي ما يكون في حد بيقرَّب منّي، وكل ما المسافة بينا ما تقِل؛ ريحة البرفيوم بتكون أقوى، جِسمي بدأ يرتِعش وضربات قلبي بدأت تزيد، والأكتر من كِدَه، إنّي بدأت أحِس بأنفاس موجودة قريّبة منّي، دا غير إنّي حسّيت بِحَركَة، وقَفت وأنا بَبُص حواليّا، وأوّل ما عيني جَت على المِراية اللي في الحيطة لَمَحته، بِنَفس صورته المُخيفة، ووشّه المَشقوق، كان واقِف ورايا، اتجمّدت في مكاني وأنا مُش متخيّلة اللي شيفاه، اللي أعرفه؛ إن التجربة كلّها بتكون عن طريق التَّخيّل، كل حاجة بتِحصل في العَقل الباطِن وِبَس، إنّما اللي أشوفه في خيالي يتنَقَل في الواقع؛ دَه اللي كان شيء مُخيف!

الجَو من حواليّا بدأ يِسخن، ويادوب ثواني؛ وبدأت أسمع صوت رياح، وفجأة النَّجَف بدأ يتحرَّك، والسّتاير بدأت تطير، غمَّضت عيني من الخوف، ونزِلت في الأرض؛ لأن رِجلي مَكَنِتش شيلاني، مَفَتَحتِش عيني غير لمّا كل حاجة من حواليّا بقت هادية، وساعِتها شوفت “آدم”، كان نازِل على الأرض قدّامي، وبيقرّب إيده من وشّي؛ عشان يِبعِد إيدي اللي كُنت مخبّية بها عيني، وبيبتِسم وبيقولّي:

-لمّا انتي خايفة منّي ليه خلَّتيني آجي؟!

مَكُنتِش أعرف إن اشتياقي له؛ مُمكِن يتحوّل لخوف منّه، ردّيت عليه وقولتله:

-أنت مَيِّت يا “آدم”.

-إزّاي بتقولي كِدَه؛ في حد برضُه يطلب من حَد مَيّت إنّه ييجي؟! أنا مُش مَيّت يا “أسيل”.

كُنت في حالة خوف عمري ما مرّيت بها، لكن قاوِمت إحساسي وقولتله:

-أنا قرأت نَعيَك بِنَفسي، أنت بقالَك أكتر من سنة مَيّت.

-أنا عايِش يا “أسيل”، انتي خَلقتيني من تاني في عقلِك الباطِن، بَس للأسف؛ التَّجربة اللي انتي استحضرتيني عن طريقها مُش مجرَّد خيال، دي بتخلّي العقل اللاواعي هو اللي مُسيطر؛ عشان كِدَه أنا بقيت واقِع بالنّسبة ليكي.

-لمّا اشتَقتِلَك مَكَنش في قدّامي غير التَّجربة دي عشان أشوفك، حتّى لو في خيالي، مَكُنتِش متوقّعة إن دي هتكون النتيجة.

-نَدمانة إنّي جيت؟

-خايفة؛ إحساسي بيقولّي إنك مُش “آدم”.

-بالعكس؛ أنا اللي انتي تخيَّلتيه، واستَحضرتيه، شوفي كان مين في خيالك وانتي تَعرفي أنا مين.

-كان في بالي “آدم”.

-يِبقى أنا “آدم”.

-بَس “آدم” وِشّه مُش مشوَّه.

-ما أنا قولتلك، دَه صُنع إيدك!

-أنا مَعمَلتِش حاجة.

-قولتِلك انسي الواقِع، كُل اللي بيِحصَل في عقلك الباطِن دلوقت؛ هو دَه الحقيقة.

-ليه سِيبتني يا “آدم” لمّا كُنت عايِش؟!

-انتي اللي خلَّتيني أعمِل كِدَه.

-كُنت عيزاك قُريّب.

-لكن تصرُّفاتِك كانت غير كِدَه.

-مُش فاهمة.

-ولا عُمرك هَتِفهمي.

-أنت حتّى صعب في رأيك وأنت مَيّت!

-لسّه مُقتَنعة إنّي مَيّت؛ بالرّغم من إنّي قدّامك!

-يِمكِن رغبِتي في الانتقام مِنّك؛ هي اللي خلَّتني أعمل فيك كِدَه في الحِلم.

-هو اللي بيحِب بينتِقم؟!

-كان جوّايا غِل منّك هو اللي خلَّاني أعمل كِدَه.

-كان لازِم أبعِد؛ عِشَان أنا تَحت وانتي فوق، الفرق بينا كبير، دا غير إنّك شايفة نَفسك ضعيفة، في حين إن جوَّاكي قوّة رهيبة، عَندِك قُدرة إنّك تدوسي، فاكرة لمّا كُنتي بتغيبي بالأيّام والأسابيع، ولا كأنّي موجود في حِساباتِك، ولمّا تِرجَعي وأقولّك ليه عَملتي كِدَه؟ فتقولي بكُل بساطة “عادي”، كُنت بَستَغرَب جايبة القُدرَة دي منين، دا غير إنّي لمّا كُنت في حياتِك؛ كُنتي مُستعِدَة تسبيني وتروحي لأوّل حد جاهِز ومناسب، بِحجّة إن دي سُنّة الحياة وإن دَه حقّك، دا انتي في مَرَّة فكّرتي في حد وأنا مَوجود؛ وقولتيلي دَه بكُل جُرأة، ومُش عاوزاني أخاف وأبعِد، هَستنّى لِحَد امتَى؟ لِغاية ما ألاقيكي بتقوليلي “باي باي” أنا لَقيت الشَّخص المُناسِب وهبدأ حياتي اللي بَحلم بها! إزّاي أكون موجود وأنا عارف إنّي مُجرَّد عَسكري شَطرنج؛ أي قِطعة أقوى منّه هَتطرُده وتاخد مكانه في أي لحظة، مين اللي المَفروض يَنتَقم من مين؟ مين اللي المَفروض وِشّه يتشوّه؟!

في اللحظة دي ملامحه اتحوّلت، حتّى عينه بدأت تنزّل دَم، مَكُنتِش قادرة أنطَق، لكنّه كمّل وقالّي:

-دا انتي لمّا أخَدتي فُرصة في حِلم شوّهتي وِشّي، ما بالك بالقوّة اللي عندِك مُمكن ازّاي تدوسي عليّا في الحقيقة!

كُنت مرعوبة؛ وفكَّرت للحظة في إنّي فعلًا كُنت بَحِبّه ولا لأ، ولّا يمكِن كانت حياتي فاضية وهو جِه قدّامي وِمَكَنش فيه غيره، أنا مَنكِرش إنّي كُنت دايمًا بحاوِل أفهّمه إنّه من الصَّعب نكمّل، وإن أنا نِفسي في حياة أبدأها في أوّل فُرصة زي أي حَد، مَكُنتِش بعمِل حساب مشاعره، وفي نَفس الوَقت عوزاه موجود!

لمّا دَقَّقت في وشّه؛ لقيت الشَّق اللي فيه بينزّل دَم، مَقدِرتِش أتحمّل المَنظر؛ عَشان كِدَه حطّيت إيدي على وشّي، حاولت بكُل الطُّرق إنّي مَشوفش اللي بيحصل قدّامي.

بَعدها انتَبهت على رنّة تليفوني، كانت “ريم”، أخدت نَفس طويل قبل ما أرُد عليها؛ عشان مَتحِسِّش إن فيّا حاجة غريبة، حاولت أكون طبيعيّة وأنا بكلّمها، ومَعرفش نِجحت في دَه ولا لأ، لكنّي عملت اللي أقدر عليه؛ لِحَد ما عَدّيت المكالمة، فِهمت من كلامها إن جالها إحساس إنّي مُش بخير، لكن أنا على قد ما اقدَر طَمِّنتها.

لمّا قَفَلت المكالمة، بدأت أبُص حواليّا مِن تاني، مَكَنش في أثر لأي حاجة كانِت بتحصل قبل المكالمة، حتّى ريحة البرفيوم اللي كانت موجودة اختَفَت، لكن اللي أكِّد لي إن دي مُش تهيّؤات، إن كان في نَقط دَم على الأرض، مكان ما “آدم” كان قاعِد والشَّق اللي في وشّه بينقَّط دَم!

***

التَّجربة التانية…

موسيقى هادية؛ إضاءة مُريحة، اتعمِّدت يكون في هدوء؛ لدرجة إنّي شِيلت حِجارة ساعة الحائط؛ عشان مَسمَعش دقّاتها، والعَقارِب فِضِلت واقفة على رقم 12.

في الليلة دي، وبَعد ما غمَّضت عيني وبدأت أفتِكر تفاصيل “آدم”؛ حسّيت بحرارة من حواليّا، بدأت أشوف نَفسي وأنا على جَبَل، الصخور تَحت رِجلي زي الجَمر، ومُش عارفة ليه كُنت رايحة ناحية طَرف الجَبل، وكان عندي رغبة في إني أرمي نَفسي؛ لكن اتفاجئت باللي بيمسِكني من إيدي وبيمنَعني، ولمّا التَفَتت أشوف مين لقيتني بقول:

-“آدَم”؟!

كان بيبتِسم؛ لكن الشَّق اللي في وشّه خلّى الابتسامة مُرعبة وهو بيقولّي:

-هَتعمِلي إيه؟ كِدَه هَتموتي!

-دَه خيال يا “آدم”.

-ما أنا قولتلك الدُّنيا اتغيّرت، خيالِك بقى واقِع.

واتفاجئت بإيده بتِختِفي من إيدي، وزي المرَّة اللي فاتِت، بدأت أدوَّر عليه، لكنّه مَكَنش موجود، بدأت الصخور تَحت رِجلي تِسخَن أكتر، لِدَرجِة إنّي حسّيت إنّ رجلي اتحَرَقِت، ولسّه هَصرُخ من الألم، لقيت نَفسي بَفوق من التَّوهان للمرّة التانية!

كُنت في الصّالة، مكان ما كُنت قاعدة وأنا ببدأ التَّجربة، لكِن بمجرَّد ما فوقت؛ حَسّيت بألم في رِجلي، ولمّا بصّيت أشوف إيه سَبب الألَم دَه؛ لقيت إن في حَرق فعلًا في رِجلي!

يعني كلام “آدم” صحيح، أنا مُش بتخيَّل.

مَلحِقتِش أفكّر، الرّؤية من حواليّا بدأِت تشوّش، وبدأت أشوف نَفسي في مَكان ضَلمة، لابسة فُستان أبيض، وشَعري نازِل على وشّي، كُنت قاعدة فوق صَخرة، ومُش عارفة ليه كان جوّايا خوف مُش مخلّيني قادرة أرفَع شَعري؛ عَشان أشوف إيه المكان اللي أنا فيه دَه عبارة عن إيه.

بَس مع الوقت، بدأت أسمَع صوت خطوات جنبي، زي ما يكون حَد ماشي فوق وَرق شَجر ناشِف، الصوت كان بيقرّب، مع كُل لحظة بتعدّي كُنت بتجمّد في مكاني وبَفقِد أعصابي، لِحَد ما حَسّيت بأنفاس بتقرّب منّي، وإيد بِتمسك إيدي، وسمِعت صوت “آدم” وهو بيقولّي:

-أخيرًا تِعبتي نَفسِك وجيتي تزوريني!

قاوِمت الرَّعشة اللي في إيدي ورَفَعت شَعري من على وشّي، وساعِتها شوفته بوشّه المَشقوق؛ اللي ملامحه بقت مُرعبة أكتر من الأوّل وقولتله:

-آجي أزورك فين؟

-المقابِر، ماهو انتي قاعدة دِلوَقت فوق قَبري يا “أسيل”.

-مُش قولتلك إنّك مَيّت.

-دي حَقيقة مُش هَيِنفَع أنكِرها، لَكن اللي قدّامِك دِلوقت دَه عايش، “آدم” اللي خَلقتيه في خيالِك، وبقى واقِع.

-أنت عاوز منّي إيه؟!

-المفروض أنا اللي أسأل السؤال دَه، انتي اللي طَلَبتي إني أحضَر.

مَكَنش عندي حاجة أقولها، فضِلت ساكتَة لِحَد ما قالّي:

-مُش بتقولي إنّك بتحبيني وعاوزاني معاكي؟ إيه رأيك في اللي هَقوله دلوقت؟

كلامه لَفَت انتباهي؛ فقولتله:

-عاوز تقول إيه؟!

-يا إمّا أكون معاكي وأنا كِدَه، وِدَه مُتاح بعد التَّجربة اللي عملتيها، أو إنِّك تيجي معايا للمكان اللي أنا بقيت فيه، وِدَه برضُه مُتاح وهَعرف أعمِله.

حَسّيت إن دَمي اللي بيجري في عروقي بقى تَلج بَعد ما سمِعت كلامه، وقولتله:

-أنا عُمري ما هكون معاك بشَكلَك المشوَّه دَه!

-يااه، بالرّغم من إنّك اللي عملتي فيّا كِدَه.

-قولتلك مَعَمَلتِش حاجة، كان حِلم!

-لسّه برضُه مُقتَنعة إنّه حِلم، عمومًا كِدَه مَفيش قدّامنا غير الطريقة التّانية.

كُنت لسّه هقولّه طريقة إيه؛ وحسّيت بالصّخرة اللي أنا قاعدة فوقها بتتحرّك، وبعدها حاجة زي إيد بتِمسكني من رجلي وبتحاوِل تِسحبني لِتَحت، اتمسِّكت بكل قوّتي في الصّخرة، وساعِتها لقيته بيقولّي:

-ليه مُش عاوزة تيجي معايا، دي إيدي اللي بتحاوِل تاخدِك على فكرة.

مَعرَفش أنا ليه عَمَلت كِدَه، لقيت نَفسي بَمِد إيدي ناحية فَرع شَجر مَرمي في الأرض، وبرفَعه وبضرَب “آدم” في وشّه، ومُش لاقية تَفسير للي عَملته؛ غير إنّي كُنت عاوزاه يِختِفي من قدّامي.

وفعلًا اختَفى، وساعِتها وعيت لنفسي في الصّالة من تاني، وحسّيت بألم في رِجلي للمرّة التانية، ولمّا بصّيت؛ شوفت علامة لونها أزرق مكان ما الإيد كانت مَسكاني، مُش عارفة أوصِف إحساس الرّعب اللي كُنت فيه، حسّيت إنّي ندمانة فعلًا على التَّجربة دي. فكَّرت أدخُل الموقع اللي كان بيتكلّم عنها، وأسأل أي حَد ازّاي أتخلَّص من “آدم” بَعد ما استَحضَرته، لأن اللي بيحصل معايا كان غير اللي كُنت متوقّعاه، لِدَرجة إنّي شكّيت إن في خطأ حصل في خطوات التَّجربة؛ وهو السَّبب في المُشكلة دي.

حَسّيت بجِسمي بيقَشعَر؛ لمّا لقيت إيد بتِمشي على رقَبتي؛ وزي ما يكون في حد واقِف ورايا، التَفَتت وبصَيت وشوفته، لكن المرّة دي شَكلُه بَقى مُرعِب جدًا، اتنَفَضت من مكاني وِوَقفت وقولتله:

-أنت مُش كان في وِشّك شَق واحد؟ إيه الجَرح التاني دَه؟!

كان فيه جَرح لسّه جديد في النّاحية التانية مِن وشّه؛ عَشان كِدَه سألته، ولقيته بيضحك ضِحكة غريبة كِدَه وبيقولّي:

-لِحقتي تنسي؟! مُش انتي لسّه من شويّة ضرباني بفَرع شَجر!

افتَكرت إنّي فعلًا عَملت دَه، عَشان كِدَه قولتله:

-أنا مَقَصَدتِش إنّي أأذيك، أنا كُنت عاوزاك تِختِفي من قدّامي وأخلَص من اللي أنا شيفاه.

-تِخلصي منّي؟! أومّال إيه أنت سيبتني والكلام الكبير دَه؟! انتي ليه مُتناقضة؟! ولا مِستنيّة الحياة اللي كُنتي بتقوليلي عليها وأنا عايش وشايفة إن وجودي هيكون عقبة، حتى لو كان العالَم بتاعي هو خيالِك!

مَحَسِّتش بنفسي غير وأنا بَصرُخ فيه وبقولّه:

-ابعِد عنّي يا “آدم” وسيبني في حالي!

-للأسف؛ مَعَدش يِنفع، اللي هَيَحصل حاجة من الاتنين، يا إمّا هَتيجي معايا هِناك، يا إمّا هَفضل معاكي هِنا!

***

التَّجربة التّالتة، والأخيرة…

“أتخلَّص ازّاي من الشَّخص اللي استَحضَرته، مع العِلم إنّه مات من فترة؟”

كانِت دي نَص الرّسالة اللي بَعتّها على بَريد الشَّكاوي والاستفسارات في الموقع، واللي وصلني الرَّد عليها بعد حوالي ساعتين، وكان كالتالي:

“على حَسب انتي استَحضَرتي إيه، الشَّخص نَفسه ولا قرينه، لو القَرين هَتِحتاجي تَدخّل معالِج روحاني يصرِفه؛ لأنّه أقوى من قدراتِك، ولو الشَّخص نَفسه، مُمكِن لمّا تعيدي التَّجربة تِقتليه، ولمّا يموت في خيالك؛ هَيموت في الواقِع، مَتنسيش إن أصل التَّجربة هي إننا نِحقق الأهداف اللي مُش قادرين نحقَّقها في الواقِع، اللي هَتحَقَّقيه في عقلِك الباطن، هو اللي هَيستمِر فيما بَعد”.

كانِت فُرصِتي، والمرَّة دي مُش هخلّيها تعدّي من إيدي، كُنت متشجَّعة عشان كان عندي يَقين إن دَه قَرين “آدم” مُش “آدم” نِفسه، وإلا مَكُنتِش عِشت جوّ الرّعب دَه.

انتَظرت لحد ما الساعة بقت 12 بالليل، وبدأت خطوات الاستِحضار، الموسيقى الهادية، الإضاءة الخفيفة، رَسَمت ملامحه في خيالي وأنا بَتخيّل إنّي ماشية جَنبه، لِحَد ما شوفت نَفسي في الجِنينة بتاعِتنا، واقفة جَنب شَجرة، وكانت طارحة جَماجِم، كُلّها كانت واخدة شَكل “آدم” اللي شوفته فيه آخر مرَّة.

-حلوة الشَّجرة؟!

كان صوته اللي سِمعته، التِفَتت ورايا ولقيته، وساعِتها كان بيبتِسم ابتسامته اللي بقيت بخاف منها وبيقولّي:

-ياترى انتي فكّرتي ازّاي في الشَّجرة عشان تِظهر بالشَّكل دَه؟! دا حتّى الثِّمار بتاعتها شَبهي!

في الوقت دَه؛ كُنت حاسّة بقوّة رهيبة، خلَّتني أقولّه:

-ابعِد يا “آدم” عن حياتي، أنا بحذّرك للمرّة الأخيرة.

-انتي اللي بتطلبي إنّي أحضَر، لو معَملتيش التَّجربة مَكَنش زماني هِنا دلوقت.

-بسيطة، دي آخر مرَّة أعمِل فيها التَّجربة.

-تِعرفي إن فايتِك كتير، قبل ما تجرَّبي حاجة لازِم تكوني درساها كويّس، لو استحضرتي نَفس الشَّخص 3 مرات، بتعطيه إذن إنه يحضَر لِوَحده في أي وقت.

أنا مَكُنتش مستوعِبة اللي بَسمعه، لَكِن لقيت نَفسي بقولّه بكُل قوّة:

-دي التَّجربة التّالتة فعلًا، بَس الأخيرة يا “آدم”.

ولقيتني بَفوق من التَّوهان وأنا في الصّالة، وبدون تَفكير؛ لقيتني بَجري أفتَح دُرج النّيش، وبطلّع الطَّبنجة اللي فيه، عشان عارفة إنه هَيظهرلي في أي وقت، مَكُنتِش بفكّر إذا كان دَه فعلًا “آدم” ولا قرينه، بَس كان لازِم أخلَص منّه لو كان هو “آدم”، ولو قرينه، مُش هيموت زي ما قرأت في الرَّد اللي جالي من الموقع، وساعتها هتصرّف وأشوف حَد يِصرِفه.

قعدت في مكاني هادية، والطَّبنجة جَنب منّي على الكرسي، لِحَد ما شمّيت ريحة البرفيوم بتاعته، وساعِتها لقيت إيده بتتمَد من ورايا، وكان فيها ثمرة من اللي شوفتها في الشَّجرة تَحت من شويّة، جُمجمة على شكلُه، ولقيته بيقولّي:

-قَطَفتِلك دي!

وقَفت من مكاني وأنا ماسكة الطَّبنجة، رفعتها في وشّه وقولتله:

-ابعِد عن حياتي، متحاوِلش تظهرلي تاني.

-إيه دَه؟! بتعمِلي كده خوف من الثَّمرة اللي خيالك رسمها؟ ولا عاوزة الإنسان اللي بتقولي إنك عوزاه يِختِفي.

-أنت مُش إنسان.

-فعلًا، الإنسان مَيفضَلش واقِف في طريق حَد مُستَعِد يبيعه في أي لحظة، عُكّاز مؤقت حد بيتعكّز عليه لِحد ما يقدِر يِمشي بشكل طبيعي.

-أنت تُقصد إيه؟!

-أقصُد إنّي قرَّرت أكون هِنا علطول، ما انتي مُش هتروحي لِحَد غيري.

-مُش هينفع يا “آدم”، أنت خلاص مَيّت، اللي قدّامي دَه عملته في عقلي الباطِن وهعرف أتخلَّص منّه.

-ولو عايش؛ كُنتي برضُه هتقولي مُش هَينفع يا “آدم” وكُنتي هتلاقي عُذر مناسب، لكن أنا قرَّرت تكوني ليّا.

كان بيقرّب منّي وفي إيده الثَّمرة، وأنا كُنت بَرجَع لِوَرا وبقولّه:

-متقرَّبش منّي.

لكنّه كان لسّه بيقرَّب وهو بيبتِسم، زي ما يكون مُش سامِعني، مَحسِّتش بنفسي غير وأنا بضغَط على زِناد الطَّبنجة، في نَفس اللحظة اللي شوفت فيها راسه وهي بتنفَجر من الرّصاصة اللي جَت فيها.

وفي لَحظة وَقع في الأرض، الثَّمرة اللي في إيده اتحوّلت لكومة تُراب، والدَّم غرَّق الأرض من حواليه، قعدت في الأرض وأنا مُش عارفة أتصرّف ازّاي، أنا شايفة الجّثّة قدّامي ومُش عارف ازّاي هَتخلَّص منها، افتكرت رسالة الموقع، لمّا قالولي لو مات يبقى هو، يعني دَه كان “آدم”؟!

الدُّنيا دارت بيّا وغِبت عن الوعي، مَنتَبهتش غير على جَرس الباب، قومت من مكاني بالعافية، وقبل ما اتحرَّك بصّيت على الجثّة، لكنّها مَكَنِتش موجودة، ولا كان في أثر لأي حاجة، حسّيت إنّي مطَّمّنة شوية، عافِرت لِحَد ما وصلت عند الباب وفتحته، كانت “ريم”؛ اللي لقيتها داخلة مخضوضة عليّا وهي بتقولّي:

-الجيران اتصلوا بيّا، وقالولي إن في صوت رصاص في الشَّقة، وخبّطوا على الباب كتير وانتي مَفَتَحتيش، طمّنيني حصل إيه!

مُش عارفة ازّاي كُنت مُتماسكة جدًا، ولقيت إجابة مُقنِعَة وقولتلها:

-كُنت بنضَّف في الطَّبنجة، وخرجِت منها رصاصة غصب عنّي.

لقيتها أخَدِت نَفس عميق وقالتلي:

-وقَّعتي قلبي.

قَعَدِت معايا شويّة، كانت بتتكلّم معايا عَن حياتها، وعن حياتي برضُه، وبتقولّي: مَتسبيش نَفسك كِدَه، لازِم تِرتِبطي، دَه كمان هيساعدِك تتخلَّصي من ذكريات “آدم”. أنا كُنت بَسمعها وجوّايا تجاوب مع كلامها، يِمكن دي تكون الطريقة اللي أتخلَّص بها من “آدم” للأبد فعلًا بَعد ما مات في عقلي الباطِن.

لكن فجأة لقيتها بتقولّي:

-إيه ريحة البرفيوم الغريبة دي؟!

لمّا وصفِتلي الريحة، عرِفت إنها ريحة برفيوم “آدم”، واستغربت هي ازّاي وصلِتلها، لأن الموضوع كان يخُص تَفكيري وعقلي أنا، لَكِن حاولت أبعِد تفكيرها عن الموضوع، وقولتلها إنّي كُنت مولّعة بخور من شوية وطَفيته.

أخَدِت وقتها وقامِت، وبَعد ما قَفَلت الباب وراها، دخلت الصالة عشان أفتَح اللاب وأبعت اللي حَصل في رسالة على الموقع؛ عَشان أتأكِّد إن كُنت خِلصت منّه للأبد ولا لأ، لكِن اتفاجئت بالدَّم والجُمجُمة اللي كانت في إيده موجودين على الأرض في مكانهم، لكن الجُثّة نَفسها مَكَنِتش موجودة.

حاولت أصوّر المكان عشان أبعته مع رسالتي، لكن اتفاجئت إن الصور كلّها بتطلَّع المكان مَفيهوش أي حاجة، بالرَّغم من إني شايفه دَه بعيني، لكن بَعت رسالة للموقع بكُل اللي حَصل بدون صورة، وانتظرت لحد ما وصلني الرَّد، اللي كان صادِم بالنسبة ليّا، لأن الرِّسالة اللي استلمتها كانت بتقول:

“اطَّمني، أنا خلاص مَبقِتش موجود في الحقيقة، ولا في خيالك بعد اللي عملتيه، “آدم”!

تمَّت…

***

الكاتب

  • محمد عبدالرحمن شحاتة، مصر، مواليد 1989، حاصل على بكالريوس تجارة قسم محاسبة. يكتب الرواية والشِّعر الفصيح. صدر له أكوديسفا "رواية"، الموقع الأسود "رواية"، حفرة جهنم "رواية" كيد ساحر "رواية"، ليلة في عَرَقَة "مجموعة قصصية"، السّمنار "مجموعة قصصية"، كارما "سلسلة حلقات الموقع الأسود الإليكترونية-الموسم الأول". كما صدر له خمسة دواوين من الشعر الفصيح. نُشرت له عديد من القصص القصيرة والمقالات والقصائد في عديد من الصحف والمجلّات.. حائز على جائزة الإبداع  عام 2012- المركز الأول.

شارك هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *