الطريق بين البحر والسماء

الطريق بين البحر والسماء

لم ينتبه إليه في البداية وهو ماضٍٍ في طريقه إلى البحر. إنه صباحٌ ربيعي مبكر يخلو فيه المصيف تقريبًا من رواده. لا تزال كراسي المقاهي نائمة فوق الطاولات، وأكثر المحلات التجارية يسبل جفونه أمام مارة يندُر وجودهم قبل أسابيع من افتتاح المصيف الرسمي بالمدينة الساحلية التي لا يسكنها من الناس طوال العام سوى القليل.

حين بدأ دبيب الخطوات الآدمية خلفه يغزو أذنيه لَفّ وجهه على الفور، فرأى مراهقًا نحيلًا يرتدى ملابس غامقة، يبدو تائهًا فيها. لم تبد ملامحه واضحة من هذا البُعد، وبتلك النظرة التي لم تطل سوى لثوانٍٍ معدودات، فقط رأى ملامح غائمة في بشرة قمحية غامقة، وجسد لا تظهر حركاته بدقة داخل ملابس مهلهلة. يبدو أن المراهق كان يجلس على أحد مقاعد الاستراحات الخشبية حين مَرَّ من أمامه، فانتقلت إليه عدوى الانطلاق مرحًا على الرصيف نحو البحر، وربما كان عاملًا مهنيًا يتلكأ قليلًا قبل أن يذهب إلى عمله الذي يقضى فيه نهاره مُشتغلًا، وليله مُنشغلًا.

التفت إليه مرة أخرى، لم يبد له أن الفتى كان يتبعه، فقد رنا إليه في التفاتته الأخيرة وهو يتسكع حول نخيل الزينة، يدور بخطوات منحنية حول مساحات صغيرة بغير اتزان. هل هذا أثر سيجارة محشوة بالحشيش أغراه بها خلو الطريق من المارة، ودوريات الشرطة، وافتقاد الشرفات إلى سكانها المستيقظين مبكرًا؟ لم يرغب بالاستمرار في لعبة الاحتمالات التي سببتها رؤية المراهق وهي تشده من طريقه، وتوقظ التوجس المُتعِب في نفسه، فها هو البحر على بُعد خطوات منه. كان قد أتى من قريته التي تبعد ساعتين بسيارة الأجرة عن المدينة الساحلية الصغيرة، لينهى مهمة كُلِّف بها في إحدى الهيئات الحكومية. هي المرة الأولى التي يزور فيها هذه المدينة في بدايات الربيع المبكرة. انتهت المهمة في العاشرة صباحًا. كانت الهيئة خالية أيضًا من الزحام. رَفَّ قلبه، وانطلقت قدماه على أحجار البازلت حول مكعبات الورد البلدي، والنجيلة في الشارع الرئيسي إلى البحر. على جانبي الشارع بيوت واجهاتها كالقصور، وبعض محلات مُفتَّحة الأبواب، بداخلها قليل من العمال وهم يجهزونها لموسم الصيف.

أَعطى أذنيه لوشيش الموج قبل أن يقف قبالته، وعاد وقع الأقدام من خلفه عاليًا مرة أخرى فلم يلتفت. “ليس البحر ملكه وحده”، قال لنفسه. هو فقط سيقف أمامه دون أن يفكر في أحد، أو شيء. سيكون براحًا يتيح له قدرًا من الخصوصية، فالتأمل، والفضفضة الصامتة في رِحابه، لينسى همومه ولو لساعة.

عَبَر الحواجز الحديدية، ثم نزل السلالم الرخامية التي تآكل وجهها وهو يفتش بعينيه على الطريق المرصوف بالأسمنت وسط الغرد الرملية التي غطت كل شيء. يعرف أن الطريق يبدأ في خط عمودي مع آخر سلم في البلاج. مائة متر تقريبًا ويكون بمواجهته، يتلقى رائحته، وحضنه. الآن يراه كخط سميك تحت السماء التي تغطيه بقبة صافية إلا من رتوش سحب بيضاء ورمادية تهرول مسرعة. حطّ حموله، وكاد يصرخ بكل قوته ليلقي ما في جوفه من همومه، ومشاغله. أمامه يهدر الموج العالي بفرح وإصرار لا ينتهي، وهناك بامتداد عيونه لا يرى سوى البحر يلتصق بالسماء كأنه لا وجود لبلد، ولا لشيء وراء هذا الامتزاج والسيولة، لكن الصوت الآدمي أقتحم خلوته بشكل مفاجئ. لم يتبين الكلمات في البداية، أدار رأسه مرغمًا، فرأى بمواجهته ذلك المراهق الذي كان يخطو وراءه وهو في طريقه إلى البحر.

هنا تبين ملامحه، إنه يبدو شابًا أكثر مما قَدَّر عمره. عيناه صغيرتان غاطستان تحت حاجبيه الكثيفين، ووجهه غامق هزيل، وشعره غير مشذب، وملابسه (تيشيرت أزرق، وبنطال جينز كحلي قديمان، وفي قدميه حذاء رياضي بالٍ). حاول أن يبتسم في وجهه، ويستفسر عما يريده هذا الشاب الذي اقتحم عزلته بندائه غير المفهوم، بل وفكر أن يدعوه لوليمة صمت في حضرة هذا الجمال والجلال، لكنه حين سمع صوته مرة أخرى أدرك أن اضطراب كلماته سببه تعاطي المكيفات، فلم يقترب منه. اقترب الشاب دون دعوة، وبحركة تَدرَّب عليها مد يده في جيبه، أبرز مطواة قرن غزال مقفولة، ولوح باليد الأخرى:

– هات فلوسك؟

في جيبه عدة أوراق مالية ليست قليلة ولا كثيرة، هي فقط ما تبقى من راتب الشهر تقريبًا بعد أسبوع واحد. لا يمكن أن يضحى بها، لا يعرف لم أخذ كل ما في حوزته في جيبه وهو خارج؟ لن يسمح لنفسه أن يفقد ماله، أو بعضه، فلو منح المراهق بعض الفكه سيطمع الشاب في الباقى، ويتركه بقية أيام الشهر عُرضة للاستدانة والإذلال. أيتجاهله ويستمر في تأمله للبحر؟ كان الشاب يضحك باستفزاز وهو يقول بنبرة خشنة:

– أعطني فلوس، بسرعة.

تبين الأمر. لن يقف الطلب عند بعض الفكه، لكنه يطمع إلى كل ما في جيوبه.

– يا بني، ليس معي مالًا. انصرف إلى عملك.

– لست ابنك، أعطني فلوسك، وإلا ستندم.

انكشف قناع النحيل الشرير، فها هو يطلب المال، أو المواجهة.. وأطفاله؟ ماذا يفعل أمام طلباتهم، وكيف سيصمد أمام شكاوى زوجته؟، ابتسم ليهدئ الأجواء:

– اختر فرائسك يا بطل، أنا لست واحدًا منهم.

كانت نبرة السخرية واضحة. هل يطلب منه أن يسرق بشرًا آخرين؟ لا، ليست هذه أفكاره. لو كان طالبًا أمامه في الصف لرأى تحوله القاسي أمام الصبيان الأشقياء، وكيف أنهم يخافونه، ويتحسبون لشدته وحسمه.

في المدى ظهر شاب آخر أكثر امتلاءً من الأول، ابتسم الأستاذ وهو يشعر أن النجدة أتته أخيرًا. هذا الأمل خبا فور أن اقترب الآخر، فانضم إلى رفيقه مما دفع الأول لفتح مطواته باحتراف. بين اثنين من قاطعي الطريق وجد نفسه مُحاصَرًا، إذا خسر ماله فسيخسر كرامته. صاح بعلو صوته: “لا”، بينما يفكر في طريقة للمناورة.

كان صوته قويًا واثقًا في وجه انسحاقه إلى درجة الذل من اثنين لا يساويان في نظره أية قوة مخيفة لو كانا وسط الناس، وليثبت أنه قادر على تنفيذ اختياراته بحصافة. سوف يراه أحدهم، سيقاوم حتى هذا الوقت، أو لوقت تلوح فيه ثغرة للهرب. لمح قطعة خشبية تحت قدميه، ولم يكن قد رفعها من الأرض بعد حين اندفع إليه المراهق. في البداية لم يحس بالألم، فقط خدر بسيط، ثم تمزق هائل، وهنا رأى الصاعقة تضرب عينيه، صرخ وهو يرى المطواة التي غرزها الفتى في جنبه تشقه شقًا قبل أن يسحبها الآخر بنظرة غلٍ رغم أن أحدهما لم يقابل الآخر أبدًا من قبل. لم يستطع الوقوف، تهاوى بأقدام مرتجفة.

نظر الاثنان حولهما بسرعة، وهما يسطوان على ما في جيبه، ويتركانه وحده بمواجهة بحر هائل، وشاطئ خال من البشر. جريا وهما ينظران حولهما. كان يصرخ طلبًا للنجدة، ويحاول أن يوقف خروج حياته التي تتسرب من جنبه المُدمى دون أن يعرف لِمَ لَمْ يَطُل التفاوض حتى يجد حيلة، أو يحسب حسابًا للعواقب، فيتنازل بإرادته عن ماله ليكسب حياته. كان موج البحر الذي يلعق رمل الشاطئ يغمر وجهه بلا هوادة. امتلأ حلقه بالملوحة القارحة، ولما حاول الصراخ مرة أخرى كان فمه محشوًا بالرمال المميتة.

الكاتب

  • فكرى عمر عضو اتحاد كتاب مصر. نشر العديد من القصص القصيرة في الجرائد، والمجلات (الأهرام - الأهرام المسائي – الأخبار – القاهرة - أخبار الأدب – الدستور – روزاليوسف - الثقافة الجديدة – ميريت الثقافية – نصف الدنيا – آخر ساعة – إبداع – نزوى العُمانية... وغيرها) الكتب الصادرة: 1- من كلمات الرجل الميت – مجموعة قصصية – سلسلة أدب الجماهير. 2- محاولة التقاط صورة – رواية – سلسلة إبداع الحرية. 3- أنا ظل الآخر – مجموعة قصصية – دار الأدهم للنشر والتوزيع. 4- الزمن الآخر – رواية – المجلس الأعلى للثقافة. 5- الجميلة وفارس الرياح – مجموعة قصصية – الهيئة العامة لقصور الثقافة. 6- تُراب النخل العالى – مجموعة قصصية – الهيئة المصرية العامة للكتاب. 7- وصايا الريح – رواية – الهيئة المصرية العامة للكتاب. 8- فُلك النور – رواية – الهيئة العامة لقصور الثقافة. 9- مقهى الشجرة الزرقاء – مجموعة قصصية – الهيئة المصرية العامة للكتاب. 10- عين من زجاج – رواية – دار الفاروق للنشر والتوزيع جوائز: 1- الجائزة الأولى في الرواية من المجلس الأعلى للثقافة 2012م، مسابقة المواهب - دورة إبراهيم أصلان - عن رواية "الزمن الآخر". 2- الجائزة المركزية في الرواية 2019 / 2020م – دورة الروائي فؤاد حجازي - عن رواية "فُلْك النور". 3- جوائز في القصة القصيرة، والقصة القصيرة جدًا من وزارة الشباب 2011م، وصلاح هلال 2011م، وإقليم شرق الدلتا الثقافي، وساقية الصاوي 2012م، ومجلة العربى الكويتية 2017م، و 2018م.  

شارك هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *