حنين
يتعلق قلبه بالماضي، فمهما مرَّعليه الزمن فإنه أعجز من أن يقتلع ذكرياته القديمة من قلبه، إنه على عتبة الثلاثين من العمر ولكنه لم يزل يضع قدما صلبة على الأمس وكأنه لا يودُّ أن ينطلق منسحبا إلى يومه، إنه يحبُّ فصل الشتاء وتلتصق بذاكرته صورٌ ثابتة من الماضي ويتشمم أنفه رائحة لا يخطئها أبدا، إنها كالعطر الثمين، ولكنها عجيبة وساحرة، تقبل نحوه كلما أتى الشتاء، لا تشبه أيَّ رائحة أخرى، إنها كجمال الرائحة التي يصنعها المطر حين يمتزج بتراب الأرض، أوالنسمات الهادئة التي تعانق الوجوه في الصباحات الشتوية، تنهال عليه الذكريات متهافتة تستعرض بذاكرته، فيودُّ بأمنية تعض على قلبه ويعيد رجاءها بإلحاح كل مرَّة على رغم وعيه الكامل باستحالة حدوثها، أن يكرّ راكضا بخطوات سريعة إلى الوراء ليجد نفسه متربعا تحت شجرة اللبلاب في الجنينة في بيت جده، يرسل ضحكات بريئة في الهواء الرطيب فتمتزج بعبق خضرة المغروسات، فيكون في طلاقة العصافير السعيدة بتحليقها وسط السماء بعد طول حبسها في أقفاصها حتى كادت تنسى كيف تطير، ويُعيد تمثيل مسرحياته المحبوبة مع جده بهيكله العظيم وشاربيه الغليظين مقلدا له الحركة بالحركة أو يهيم بين القصص التي لا يملها وإن أعاد قراءتها أكثر من مرَة أو سماعها من جده يقرأها له كل ليلة بصوته الجميل الذي تعلق به منذ جاء ليسكن في بيته، وهو لا يعرف غيره يحبه ويتشبث به كأخر أمل بقي له بعد موت والديه، إنه يرسخ بصورته المحببة في ذاكرته ببدلته الأنيقة التي يرش عليها من عطره المحبب الذي بات يتعلق بأنفه ويتشمم رائحته في كل مكان وعصاه التي لا يستغني عنها وبحركاته التي يجيد تمثيلها، فيضحكه من قلبه ويأخذ بيده ليرقصا معا، كان يتشارك معه لحظات الصباح الأولى ويمضيان معا في جولة طويلة يتمشيان بلا ملل ويتناولان الطعام معا ويسهران معا فيصغي له وهو يعيد له سرد حكاية علاء الدين والمصباح السحري، وسأله مرة عن علاء الدين ومصباحه السحري أين يسكن وهل مصباحه موجود في مكان ما فأجابه بصوته الواثق وقال أنه أمر خيالي لا وجود له الآن، لكنه راح يردِّد بلهجة المتأكد أنه لا بد أن يكون قد سقط في يد أحدهم، قد يكون بحوزة شخص ما في هذا العالم، وسأل جده أيهما تفضل البساط السحري أم المصباح فقال أنه يحب التحليق والسفر وأن ينظر لكل شيء من فوق ويرى أسقفة البيوت صغيرة ويطير بلا جناحين ويجد كل شيء صغيرا بالأسفل كأنه مجموعة من الأشكال المنوعة، كان يشاهد جده في كل لحظة من لحظات حياته، يجلسان في الجنينة في أيام الشتاء ويشهدان نزول المطر بقطرات خفيفة حتى ينقلب قويا هاطلا فلا يدخلان بل يرقصان تحت المطر ويضحكان معا..
الآن، لم يعد يحفل بتلك السعادة التي فقدها وفي القصص التي يقرأها لا يسترجع نفسه القديمة وهو يحكي مع جده ويسبح بأخيلة جامحة في سماء الحرية كما كان يفعل وهو يقرأ السطور بعناية معه ويبعثر في جو الجنينة الصغيرة أحلامه وآماله في البحث والركض وراء شخصياته المفضلة التي يقول أنها خيالية لكنها تحضر أمامه وتنزلق منسحبة من ورق القصص كلما قرأ عنها وكأنها موجودة في عالمنا، وقد بات يتمشى وحيدا ويجلس وحيدا تحت شجرة اللبلاب وكلما سقط المطر خرج بعصا جده وهو يرسل ضحكات عالية يرددها صوت المطر وفراغ الجنينة
اترك تعليقاً