رحلة في “بقايا جيل التسعينيات” للكاتبة/ بريهان أحمد.
بدايةً؛ أحببتُ أن ألقي الضوء على أمر هام، وهو أنني قلَّما وجدتُ في الآونةِ الأخيرةِ، قلمًا يحملُ عبقَ الزمن الجميل في الكتابة، إن المتابعَ للساحة الأدبية الآن؛ يعرف جيدًا أن الانفتاح الذي أحدثته السوشيال ميديا، قد ساهمَ بشكلٍ كبير في تدنّي مستوى الإبداع الأدبي، إذ نجد أنَّ كل من يمتلك حسابًا على صفحات السوشيال ميديا، يستطيع كتابة النصوص ونشرها، وربما يضع أمام اسمه لقبًا لم يكن جديرًا بهِ، لكن بقايا جيل التسعينيات تختلفُ كثيرًا، إذ أنه لا مقارنة بينها وبين ما يُطرح الآن، لذلك أحببتُ أن أتحدثَ ولو قليلًا عنها.
إننا أمامَ رائعةٍ أدبيةٍ بحق، مجموعة قصصية تُعد نموذجًا يحتذى بهِ، حيث نجد قوة السرد وطلاقةَ اللغة، إلى جانب النواحي الفنية للقصة القصيرة، من بدايةٍ ووسطٍ وخاتمة، إلى جانب الصراع والعقدة، حيث استطاعة الكاتبة أن تطبِّقَ قواعد هذا القالب الأدبي المُسمى بالقصة.
إنها الكاتبة/ بريهان أحمد، التي حملت في رحلتها ذلك العبق الجميل، حيث استطاعت أن تبلور ذلكَ الماضي، وتنقله إلينا عبر مجموعة قصص أجادت فيها الوصفَ والحبكة. إن البداية من هنا، من ذلكَ العنوان المثير للفضول “بقايا جيل التسعينيات”، ربما تشير الكاتبة إلى أنها تنتمي إلى ذلكَ الجيل، الذي هو حلقة الوصل بين جيلٍ تثنى له معاصرة الزمنِ الجميل، ومعاصرة الواقع الذي نعيشه الآن.
إن ما أكتبه الآن ليسَ نقدًا، ولا تحليلًا، ولكنها رحلةً أتأملُ فيها بعضَ النقاط التي أثارتها الكاتبة من خلالها ذكرياتٍ عديدة، ربما استطاعت إلقاء الضوء على جيلٍ هو في مقتبل حياته الآن، وليس هذا الجيل فقط؛ ففي قناعتي أن المجموعة تستطيع توصيف الحالة العامة لكل جيل على حِدة، فإن بها من المرونة والمشهدية ما يمكنها من ذلك.
لقد استطاعت الكاتبة صناعة المشهدية في قصصها، عن طريق إلقاء الضوء على أدق التفاصيل للشخصيات والأحداث، إنها في ذلك الأمر تفعل ما يجب على الكاتب فعله، وهو أن يرى ما يعجز عنه الآخرون، لا أن يمرَّ على الأحداث مرورَ الكرام، واصفًا ما يمكن للإنسانِ العاديِّ أن يصفه، تاركًا ما يجب أن يلحظه الكاتبُ دون غيره.
إن التفاصيل شيء هام في الكتابة، تمامًا كما يهتم الفنان التشكيلي بتفاصيل لوحته، إنها تُمكِّنُ القارئ من التعايش مع الأحداث، بل وتجعله يصنع المشهد في خياله، يرى الشخصية كما يصفها الكاتب، ويرى الأماكن ويتخيل أطرافَ الحدث، كي يتثنى له معايشة الصراع الذي يدور داخل السطور، إن الكاتب إن استطاع أن يأخذ القارئ إلى هذا الرحلة؛ فهو كاتب جيدٌ، وهذا ما نجحت فيه الكاتبة.
تعتبر اللغة هي المعضلة التي تواجه عديدًا من الكُتاب، لكني وجدتها طوعَ الكاتبة، تشكِّلها كيفما تشاءُ وكأنها تمسكُ بقطعة صلصالٍ لينة، لتخرج لنا في نهايةِ الأمر بقصةٍ مكتملة الأركان، وتطبقُ القاعدة التي تقول: إن الكتابةَ إبداعٌ لغوي، فمن امتلكَ اللغة امتلكَ زمام الإبداع.
من هنا أودُ تسليطَ الضوءِ على بعضِ القصص في المجموعة، ليسَ حرقًا لأحداثها ولكن لا يمكنني الحديث عن المجموعةِ دونَ أن أتطرَّق إلى بعضِ محتواها، فضلًا عن أن كل قصة تُعد روايةً قصيرة، أو تصلحُ لأن تكونَ مشروعَ روايةٍ مطوَّلة، ولا يجيدُ كتابةَ هذا النوع من القصص إلا كاتب يمتلكُ من المهارةِ والأدوات ما يمكناه من فعل ذلك.
ففي قصة “الليل مع فاطيمة “عابرة سبيل”، تلقي الكاتبة الضوء على حدث نتعرض له جميعًا، وربما تعرضتُ لحدث مثله بصفةٍ شخصية، وهو ذلك العالم الافتراضي الواهم، حيث يتعلَّق الشخص منا أحيانًا بشخصٍ لا يعرفُ عنه شيئًا سوى أنه مجرد صفحةٍ بها بعضُ البيانات، والتي لا نستطيع الجزم ما إن كانت صحيحة أم وهمية، لكننا نتعلَّق وكفى، ربما لأننا وجدنا معه المساحةَ التي نبحثُ عنها ولم نجدها، نبوحُ ونشتكي ونفرغُ ما بداخلنا من حكاياتٍ، خاصة وإن حدث ذلكَ مع كاتبٍ يمتلكُ من المشاعرِ الكثير، كما حدث مع “سامر” بطل القصة، والذي انتهى بهِ الأمر إلى تلك النهاية المتوقعة، وهي اختفاء “فاطيمة”، أو اختفاء النجمة التي مدَّ إليها يدًا، ولم يستطع الإمساك بها.
أما في قصة “بقايا جيل التسعينيات”، وهي القصة الرئيسية للمجموعة، فإن الكاتبة لم تكف عن إبهاري، فقد كنت أجد انبهارًا في كل جملة أقوم بقراءتها، لكني أود أن أتناول القصة من وجهة نظر مختلفةٍ قليلًا، ربما جاء وقتُ قراءتي لها مع تلك الأحداث الأخيرة “الحرب الصهيونية على غزة”، ولكن قبل أن أتطرق إلى هذه النقطة، أحببتُ أن أذكر الموقف الذي اتخذته “بيان عبدالواحد زمان سليمان” بطلة القصة، حين أقدمت على تقديم استقالتها من جريدة ربما يحلمُ كل صحفي بالعمل بها، لكنها فعلت ذلكَ انتصارًا لقناعاتها وقلمها وحرية تعبيرها، فلم يكن أمامها إلا أن تتركَ الجريدة لتبحثَ عن مكانٍ آخر، لا يقوم فيه أحد بحذف أو تعديل ما تجود به قريحتها، ولم يقدم أحد على لومها، لأنهم كانوا مؤمنين بموهبتها.
لكن السؤال الذي تطرحه القصة، هل هذا الحلم الذي أقدمت عليه “بيان” متاح أم لا؟ والحقيقة التي أرادت الكاتبة طرحها هي أن ذلك الحلم غير متاح للأسف.
قبل أن أقدم رؤيتي الشخصية، أود أن أقول أن الكاتبة أصابت في طرح القضايا التي طرحتها في أحداث القصة، استشهاد محمد الدرة، غرق عبارة السلام، حريق قطار الصعيد، فهذه قضايا هامة تشكل منها وعي جيل التسعينيات وعاصرها في مقتبل حياته، ولكن أحببت أن أوضح رؤيتي من هذه النقطة، وهي مرحلة الانتقال من الصحافة الورقية إلى الإليكترونية، فقد يراها البعض انفتاحًا لا قيودَ فيه، ولكن الحقيقة التي أوردتها الكاتبة، هو أنه كلما اتسعت مساحة التعبير، كلما اتسع القيد معها، فحينما هربت “بيان” من رئيس التحرير الذي يحذفُ ما تكتبه، اصطدمت بتلكَ الخوارزميات التي تفعل ما يفعله رئيس التحرير بشكل آخر، وهو أن ما تقوم بنشره مخالف لمعايير المجتمع، لتخبرنا أن القيود كما هي، كل ما تغيرَ فقط هي طريقة احكامها حول معصمنا، وهكذا رأينا تطبيقًا واقعيًا للقصة على السوشيال ميديا، أثناء الحرب الصهيونية على غزة.
مرورًا بالقصص الأخرى، فأنا لن يسعفني الوقت للحديث عن كل قصة بتفاصيلها، وإلا سيعتبر ذلك حرقًا للأحداث، فقد أحببتُ أن تطلعَ بنفسكَ أيها القارئ على ذلكَ المحتوى المميز، ولكني أحببتُ أن أقول: إن قصة “فيلا 106” جاءت مختلفة قليلًا، فأنا أراها قصة رعبٍ مميزة، وأود أن أتساءل إن كانت الكاتبة على استعدادٍ أن تقدمَ عملًا مستقلًا في ذلكَ الجانبِ أم لا، لكنها تستطيع بإمكاناتها وأدواتها أن تفعل ذلكَ على أيةِ حالٍ.
إن الكاتبة تطرقت في المجموعة إلى عديدٍ من الأمور، التاريخية والعقائدية والعلمية، مما يدل على أن الكاتبة لديها اتساع أفق وفائض معلوماتي استطاعت تطويعه لخدمة أعمالها الأدبية، رغم ذلك تميزت المجموعة بوحدة النسيج واتساق السرد، فلم يتغير أسلوب الكاتبة بتغير الفكرة التي تتناولها، وهذا أمر لا يجيده الكثيرون.
ختامًا، إن بقايا جيل التسعينيات عمل مميز، نموذجٌ يحتذى به في القصة القصيرة، إنها كنز لكل الباحثين عن كنوز وروائع ذلك الفن المميز، القصة القصيرة؛ لذلك أرشحها بشدة.
اترك تعليقاً