الكائن العجيب

الكائن العجيب

الجدة هي ذلك الكائن العجيب الذي يمتلك عددا من الأعاجيب السحرية التي ليس في مقدورك أن تجدها لدى أي شخص آخر، إنها تستطيع أن تنصت لتلك الحاسة التي تخبرها بمقدم حفيدها فلا تخطئ أبدا.

يهتزُّ قلبها سعادة وتلمع عينيها الدافئتين فتنهض على عجل لتستقبله بالتقبيل والعناق الحار مهما كان حجم الشوق الذي سرعان ما يتزايد عند كل زيارة كأنها الأولى بعد زمن طويل، يحفل صدرها بطاقة عجيبة وكأنما ارتد الشباب إليها فجأة، فتكون وجهتها المعلومة إلى حجرة المطبخ وقد أبقت على الزائر جالسا في هيئة الوديع داخل الحجرة محذرة عليه بأن لا يفعل شيئا غير الانتظار، وما هي إلا دقائق حتى تعود إليه محملة بصحان من الطعام المنوعة صنوفه، تقدمها أمامه على الطاولة وتتأكد من وضعه المريح حتى يتسنى له الأكل ويتسنى لها أن تأتي بما تبقى من الأطباق، فوجب عليه أن ينهال بشراهة نحو كل طبق، فلا تتقبل أي عذر مهما كان ولا تكترث لرأيه، هذا إن كان له رأي أصلا، فهو جائع لكنه لا يشعر بهذا أو لا يودُّ الاعتراف به بدافع لربما هو الخجل، وما إن ينهي ما استطاع من الطعام حتى تعود بصينية من الكعك وفنجان من الشاي الساخن فيشربه على مهل وهي ترنو إليه بوداعة قلب مطمئن ولسانها لا يتوقف لثانية وهي تسائل وتجاوب وترد وتعقب، يبدر الحب ظاهرا في حدقتي عينيها، ما من مشكلة يعاني منها إنما هو راجع لسببين لا ثالث لهما، إما أن يكون جائعا أو أنه يشعر بالبرد الشديد ولو كان يتصبب عرقا من حرارة الصيف، وكلما نطق بشيء وجدها تنصت وتقابل كل كلمة مهما كانت بسيطة بالاهتمام والاصغاء على وجهها الذي نُحت بتجاعيد دقيقة ابتسامة العاطفة الحانية تجعله يشعر أن دفئا غريبا ينسرب إليه من جوانب البيت الدافئ بتفاصيله وجدرانه ولوحاته المعلقة وسجاده المزخرف وأناقة أجزائه البسيطة التي تحكي ذكريات الماضي التي لا تودُّ الانفلات منه، وتتعلق به كأنما لم تزل تعيش فيه، تذهب إليها بنفس مضغوطة فترجع منشرح الوجه سعيدا كمن ظفر بغايته بعد جهد، فجو المكان الذي يلف البيت يقلب الحزن إلى سعادة، و القلق إلى هدوء، وكأنما هي تمتلك طاقة عجيبة تطلق ضحكتك المكتومة وتعيد إليك شعورا بالراحة قد فقدته طويلا، إنها تجيد سرد القصص والحكايات المتسلسلة التي جعلت كل أحفادها وهم صغارا يحفظونها وينتظرون مقدم الليل لينصتوا بشغف، فتطوف عقولهم الصغيرة سابحة في عوالم خيالية حتى يزحف إليهم الهدوء والطمأنينة فترتخي أطرافهم تحت الأغطية الثقيلة ويستسلمون لنوم هادئ عميق.

الجزء الأكبر من ذكرياتي الماضية في طفولتي هي ما يربطني بجدتي، إنها تتعلق بوجداني راسخة كما يرسخ الحدث السعيد الذي لا يُنسى في ذاكرة أحدهم، هيئتها المتقنة في صنع بديع، فساتينها الملونة وبياض وجهها وطبيعتها المائلة للهدوء وطباعها الرقيقة وتلك الرائحة العبقة التي تفوح من ثيابها تشبه العطر لكنه ليس عطرا، إنه شذى رقيق يشبه طعم الحلوى الملتصق مذاقه على اللسان، تجلس ناحية الظل حينما تبتعد أشعة الشمس وقت الأصيل في حديقتها ذات السور المزخرف الذي يمتد طويلا، وتحفل داخله شجرة اللبلاب المتعرشة بطولها وهي تزحف على كل جانب بخضرة خيوطها الطويلة، تتوسطها زهورعباد الشمس والأزهار الندية الملونة التي تحرص على أن تسقيها قبل أن تسقط ذابلة على الأرض، تضعها في كأس زجاجي تزين بها منظر سطح الطاولة أو كلما كثرت الزهور المقطوفة تجمعها في صينية واحدة وتتركها لتيبس ثم تصرُّها في كيس من قماش، إن جو بيتها لا يخلو من روائح الفواكه المجففة التي تصنع منها أنواعا من المربى الذي يدوم طويلا والكعك الذي خصصت له خزانة فلا ينفذ أبدا.

الجدة في كل مكان هي سرُّ الجمال الذي يرتكز عليه البيت وروح الحياة التي تكمن في تجاعيد كفيها وكأنما هي قطعة من أثر الماضي القديم بحلاوته وجماله.

 

الكاتب

شارك هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *