- الوصف
- مراجعات (0)
الوصف
مالك – جمال سليمان
في هذه الأزقة و الشوارع الضيقة، كنتُ أجدُ نفسي صغيرًا لا يكبر، و لطالما كنتُ أخافُ ألّا أكبُر يومًا كما يفعل الآخرون، وحينها سأصبح قزمًا وسيتطاول عليّ الصبية و لن أستطيع رد الصّاع لهم.
سنين طويلة قضيتها في تلك الدّروب وخرجت إلى شوارع أكثر ضيقًا من جُحر الأرنب ولكنّي كنت أجدها براحًا لا يكتنز، و كانت كافية لأختبئ فيها عن أعين رفقائي في لعبة ” الغُمّيضة” أو “عسكر وحرامية” كما كنّا نسميها. سنين طويلة ركضت و ركضنا خلف عربات المياه وهي تسقي تراب الشّارع الذي لم يكن لتقيده قطيرات أو حتّى شلال مياه، فسرعان ما تصهره الشمس ويعود لتستفزه الريح فيسبح في رؤوسنا وأعناقنا وتتكدّس به الأعين. لكنّنا لا نُبالي ونستمر في اللّعب.
سنين طويلة وأنا أرى كل البنات التي في المدرسة المجاورة لمدرستي عرائس خشب ودُمى لا يمكنني أن أتكلّم معها.
كانت تقف بعيدًا وحدها وكنت أراقبها دائمًا. تتمرّد على الجماعات النّسائيّة الصّغيرة، ولا تنصاع لهم. تأبى إلّا أن تسير نحو البيت بمفردها في إستخفاف من الجميع، و إمتعاض من أحاديثهن السّخيفة.
كبر كلانا دون معرفة بعضنا. إلا أنّنا نعرف كل شيء عنّا دون سؤال أو استقصاء أو حتّى ملاحظة احتجنا لندوّنها في دفتر كي نتذكّر كيف كنّا.
كلّ شيء كان واضحًا تمامًا وشفافًا كالمياه الّتي لا يصل إليها اليخن أو تصيبها العكارة.
حين أصابتني الحُمّى أذكر أنّني كنتُ صغيرًا، وكعادتي لم أشعر أنّي كبرت إلّا حين رأيتها تدخل متّشحةً بالحجاب تزورني وأنا في نصف وعيي. أسمع أحاديثًا وأصواتًا بعيدة وقريبة متداخلة بدون تمييز. أميز فقط صوتها وهي تتحدث لأمّي وتضحك في أدب وحياءٍ خلّاب يستثير المشاعر ويأسر القلب.
لم أصدّق نفسي حين رأيتها تختلس النّظر إليّ من بعيد وترفض أن تدخل إلى مرقدي وكنت أظن أنها تهيؤات الحمّى.
كنت أنام على فرش خشن كالشّوك أو هذا ما كنت أشعره بفعل “الحصبة” كما قال الطّبيب وعلى الأرض في مساحة كبيرة بعيدًا عن كلّ شيء إلا من شيء واحد .. مرضي.
حاولتُ جاهدًا أن أرفع رأسي لأراها، ولَكَم خفق قلبي حين رأيت وجهها بعينين بنصف النّعاس ونصف اليقظة.
كانت جميلة للحدّ الذي جعلني أُشفى، وكأنّ قنديلًا أضاء عتمتي فجأة. أحسستُ بطاقةٍ لا معقولة تحقن قلبي وأعضائي وشعرتُ بخفّةٍ في جسدي. حاولت النّهوض إلّا أنّ رأسي وكأنّه مقيّد إلى الأرض وألم شديد بمقدمته ومؤخرته.
كل شيء بي يريد النّهوض ليراها لكنّني محتجز ومقيّد رغمًا عنّي ..
حاولتُ أنْ أُصيح وأنادي على أمّي كي تلتفت هي وأراها ثانية لكن صوتي خذلني ولم يخرج.
تعرّقتُ كثيرًا وشعرت ببرودة تسري في أوردتي. وكأنّ الدم محمّل بفائض من الأوكسجين. تسارَعت نبضاتي بشكل غير مسبوق وكأنّني تعرّضت لتيّار كهربائي كفيل لأنْ يصعق فرس.
فتحتُ عينيّ فجأة .. واختفى كل شيء.
***
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.